تحتل قضية التعليم العالي بين أبناء المجتمع الفلسطيني داخل البلاد مكانة مرموقة، خصوصًا وأن الأقلية العربية التي يتفاقم لديها الشعور بالغبن وعدم الإنصاف ويقبع أكثر من نصفها تحت خط الفقر، ترى أن التعليم يلعب دوراً رئيسياً في منحها فرصًا للحصول على مهنة تؤهل أبنائها للاندماج في سوق العمل وأقرب طريقة يمكن منحهم بواسطتها فرصاً متساوية لتطوير مهاراتهم وقدراتهم الشخصية وتحسين مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية.
في العشر سنوات الأخيرة، تضاعف عدد الطلاب العرب الذين يتعلمون بالكليات والجامعات داخل البلاد بأكثر من ضعفين، حيث وصل عددهم بحسب مجلس التعليم العالي الى 58,000 طالبة وطالب سنة 2020. تشكل نسبة الطالبات العربيات في الجامعات الإسرائيلية نحو 60%.
ولكن رغم هذا الارتفاع في عدد الطلاب العرب في مؤسّسات التعليم العالي في إسرائيل، فإنّ جزءًا لا يُستهان به من الطلاب، أو ما يقارب 30% (24,000 طالب)، يتوجّهون لتَلقّي الدراسة في جامعات خارج البلاد بحسب دراسة أجرتها "مدى الكرمل"، وبحسب التوقعات فإن نسبة الطالبات العربيات اللواتي يتعلمن خارج البلاد من مجمل الطلاب تتراوح ال 40%، أي ما يقارب 9600 طالبة، يتوزعن بين جامعات فلسطينية، أردنية وأوروبية.
الحكم العسكري والحزب الشيوعي
منذ عام 1948 حتى 1966 عاشت الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت الحكم العسكري. فلم يسمح للمواطنين بالسفر الى الخارج للتعلم الا فيما ندر، وكذلك في إسرائيل نفسها، كان التعليم أمر صعب للغاية نظراً لحقيقة أنه لم يكن لدى الغالبية العظمى من الفلسطينيين ببساطة الوسائل لدفع تكاليف دراستهم في الجامعات أو الكليات المحلية.
لعب الحزب الشيوعي بعد انتهاء الحكم العسكري، دوراً رئيسياً في إتاحة المجال للشباب والشابات للتعليم في دول الاتحاد السوفيتي سابقاً، عن طريق المنح التي حصلوا عليها منها، فعن طريق الحزب خرجت أوائل المجموعات للتعليم خارج البلاد، لكنها لم تكن الوحيدة، فهناك أفراد قلائل من أبناء العائلات المقتدرة غير الناشطة سياسياً ممن سافر ابناؤهم للتعليم في دول أوروبا وأمريكا.
لم تكن ظاهرة تعليم الشابات خارج البلاد مألوفة في مجتمعنا، وتراوحت الآراء حول الموضوع، فبينما شجعتها نسبة قليلة كان هناك الكثيرين الذين استهجنوها، فحالوا دون السماح لبناتهن بالسفر طلباً للعلم. فهل اختلفت على مدار خمس وأربعون عاماً الأسباب التي جعلتهن يتعلمن خارج حدود الوطن؟ وما الفرق بين تجاربهن في رحلة تعليمهن خارج البلاد في الماضي والحاضر؟ وهل بقيت نفس التحديات تواجههن؟ للإجابة عن هذه الأسئلة قابلت خمس نساء ممن تعلّمن أو لا زلن يتعلمن خارج البلاد.
من كفرياسيف إلى العالم ...عام 1974
أنهت المحامية ناهدة شحادة، من سكان قرية كفرياسيف المدرسة الثانوية عام 1974، مع معدّل عال، وكان طموحها أن تتعلم بالبلاد، لم تفكر يومًا بالتعليم في الخارج. سجلت وقبلت في جامعة حيفا لدراسة الفلسفة وفي اليوم الذي ذهبت فيه مع والدها لتكملة إجراءات الدفع، تم إخبارها بأن اسمها شُطب من لائحة الطلاب المقبولين، وعلمت لاحقاً بأن سبب الشطب هو أن اسمها أدرج في القائمة السوداء من منطلقات سياسية، فوالدها يوسف شحاده كان قائد بالحزب الشيوعي، وقد اعتقل ونفي ووضع تحت الإقامة الجبرية لسنوات.. تقول ناهدة ضاحكة: الصراحة لم نفاجئ من قرار الشطب، فأنا لم أكن الأولى من عائلتي التي يوضع اسمها بالقائمة السوداء، لكن من حسن حظي أن الحل الوحيد أمامي هو التعليم في إحدى دول الاتحاد السوفيتي عن طريق الحزب الشيوعي، وتم قبولي خصوصاً وأن ابي وأمي هما رفاق بالحزب، ووالدي كان محترف حزبي، وقد تربينا فيه ولا نزال حتى اليوم"، وتضيف، كان موضوع سفري شيء طبيعي بدون أي معارضة من العيلة او المحيطين أو أهل القرية، في تلك الفترة كانت الكثير من صبايا البلد يتعلمن بجامعة القدس، ولم يكن قرار السفر غريباً على أحد".
حرمان ديني وانجاز
لم تكن تجربة محسنة القيش من مجدل شمس مع السفر للتعلم خارج البلاد بنفس سهولة ناهد، ففي حين أن والدها كان أيضاً من المناضلين الوطنيين وذات فكر ماركسي (كان يلقّب بالشيخ الأحمر)، لكن أهل الجولان لم يتقبلوا فكرة سفر النساء الى خارج البلاد مستهجنة جداً فحاربوها وأعلنوا على والدها ووالدتها حرماناً دينياً عندما أعلنا بأن محسنة ستسافر للتعليم في الاتحاد السوفييتي، مع أسئلة استنكارية تتلخص ب "مش بس بدك تطلّعها تتعلم بريت البلاد، وكمان ببلد الكفار؟"، تقول محسنة، كل فكرة تعليم البنات حتى في المدرسة الثانوية لم تكن مقبولة على أهل الجولان، كانوا مقتنعين بأن الحد الأعلى للبنت هو الصف الثامن، من بعده عليها أن تساعد أهلها في قطف الكرز والتفاح، ثم تتزوج". لكن والدها الذي كان ذو فكر نيّر ووالدتها اللبنانية الأصل التي رغم عدم إنهائها التعليم فهي انسانة مثقفة جداً (صدر لها حتى الآن خمس كتب شعر)، كلاهما قطعا عهداً على نفسيهما بتعليم كافة بناتهم وأبنائهم تعليماً جامعياً، كي يساعدوا أبناء القرية ويساهموا في تطويرها. لقد استمر الحرمان الديني على والدها لمدة 12 عاماً، حتى عادت آخر واحدة من أخواتها الى البلاد.
لم تكن وضعية كل من رنين أو نادرة أو ياسمين تتشابه مع وضعية ناهدة ومحسنة من حيث الوضع السياسي وانتماء عائلاتهم السياسية. فحتى مع الإمكانيات التي باتت متاحة لكل واحدة منهم بالتعليم داخل البلاد، فقد قررت ثلاثتهن التعليم بالضفة الغربية أو خارج البلاد، لأسباب تتشابه بأغلبها وتتماهى مع احتياجاتهن كشابات من جيل مختلف ذوات تطلعات مختلفة كلياً عن تلك التي كانت للأجيال السابقة.
تجربة النجاح
تقول رنين قاش من قرية زلفة، في البداية كنت أرغب بالتعليم في إحدى الجامعات الإسرائيلية، لكن أهلي حاولوا إقناعي بأن أتعلم بجنين أو نابلس، من منطلق أنها أكثر أماناً لي ك "بنت"، وعندما وافقوا بأن أتعلم في حيفا، أنا غيرت رأيي، لسبب وحيد بأن لغتي العبرية ضعيفة، وسأحتاج الى سنة أو أكثر كي أحسنها، ولم أكن أرغب بتضييع سنة من عمري لهذا الموضوع، فقررت أن أتعلم بجامعة النجاح بجنين. تعلمت موضوع الهندسة المعمارية لمدة فصل كامل، وعندما سمعت بأن الشهادة غير معترف بها في البلاد، قررت أن أتعلم موضوع الصحافة والإعلام، لكن لو عاد بي الزمن الى الوراء كنت سأتعلم هنا، لأن اللغة العبرية هي مهمة لكل شخص يريد أن يعيش ويعمل في البلاد.
صحيح أن موضوع اللغة كان عائقاً أيضاً أمام ياسمين حايك ونادرة لبّس من الناصرة، حيث أن اللغة الإنجليزية هي لغتهن الثانية بعد اللغة العربية، ولم تشعرن أنهن سيقدرن على التعلم في جامعة إسرائيلية بسبب هذا الموضوع، لكن ذلك لم يلعب الدور الرئيسي في قرارهما بالسفر للتعليم خارج البلاد. فقد تحدثن عن عوامل إضافية تتعلق برغبتهما في التعليم خارج البلاد كهدف أكثر مما هو غاية. فرغبتهما بالاعتماد على نفسيهما، والخروج من منطقة الراحة، والابتعاد عما يزعجهما في مجتمعنا التقليدي المنغلق على نفسه (بحسب أقوالهما)، والتعرف على حضارات مختلفة خصوصاً في مدينة هايدلبرغ بألمانيا، التي تعتبر من البلدان التي يقصدها طلاب من كل أنحاء العالم، كل هذه التجارب ما كانتا ستعيشانها لو تعلمتا داخل البلاد.
التحديات
أما عن التحديات التي واجهت وتواجه الطالبات أثناء تعليمهن خارج البلاد، فيحتل الشعور بالغربة وضرورة الاعتماد على النفس بعيداً عن دفيئة العائلة والمجتمع المرتبة الأولى عند أغلبيتهن الساحقة. لكن، لكل انفردت كل واحدة بتجربة خاصة فيها، تقول محسنة، ابي صور لنا موسكو انها جنة على الأرض وانها مثالية، لكننا شعرنا بصدمة شديدة، من الفقر وعدم توفر كافة الحاجيات، والطقس شديد البرودة الذي كان يصل في بعض الأحيان الى 40 درجة تحت الصفر. وتضيف، "في بداية تعليمي كنت أريد الرجوع، وبالفعل اتصلت بوالدتي وطلبت منها أن تحجز لي تذكرة لأعود فأجابتني "يا امي احنا دفعنا ثمن غالي كتير، وتحملنا كل شي.. بنفعش ترجعي".
تقول محسنة بأن جملة والدتي هي ما دفعها للبقاء 6 سنوات حتى إنهاء تعليمها والتخرج بتفوق بموضوع الطب. بالمقابل، لم تواجه ناهدة صدمة بل على العكس، تقول، منذ نعومة أظافري، وبسبب كون والدي نشيطاً في الحزب الشيوعي، كانت تأتي الوفود من الاتحاد السوفيتي الى بيتنا والى قريتنا التي كانت من أوائل البلدات العربية التي كان رئيسها المنتخب شيوعياً، وأنا بنفسي سافرت الى مخيم للحزب في روسيا عندما كنت بجيل 14 عامًا، هكذا كنت أعرف عنهم وعن ثقافتهم قبل أن أذهب، فكان تعليمي في أوكرانيا أمراً عادياً ورائعاً بالنسبة لي، لقد أثرتني هذه التجربة وصقلت شخصيتي وأتاحت لي المجال بالتمتع بالثقافة والفن والموسيقى وريادة المسارح والسينمات ومشاهدة أروع الفرق العالمية، كنت كل سنة أشاهد عرض الباليه العالمي "بحيرة البجع"، هذه الأمور ما كنت لأقوم بها لو تعلمت بالبلاد، فهنا هي مقتصرة على مقتدري الحال أما هناك فهي متاحة للجميع. أما رنين التي تعلمت في جامعة النجاح بنابلس، فقد واجهتها صعوبة التعامل مع المجتمع الذكوري الذي يعاكس البنت في الشارع بدون رقيب. تقول رنين، في السنة الأولى" كنت أخشى أن أمشي لوحدي في الشارع وكان الأمر مزعج كثيراً بالنسبة لي" لكن بمرحلة معينة اعتدت الموضوع.
بالمقابل تشدد كل من ياسمين ونادرة على الصعوبة الكامنة في اضطرارهما للقيام بكل الأمور لوحدهما ويعتمدن على أنفسهن، داخل المجتمع الألماني، الذي بحسب قول ياسمين "بارداً يفتقر الى الحميمية وحب المساعدة"، أما نادرة فتقول "لم أكن أتخيل أن موضوع الطقس ودرجات الحرارة المتدنية ستؤثر عليّ بهذا المقدار، الطقس في ألمانيا أثر على جسمي ونفسيتي كثيراً".
[email protected]
أضف تعليق