ليس هناك مجتمع أو دولة في عالمنا المعاصر لا تطمح نحو الأمن والسلام ، وأن يعيش أبناؤها متحدين متآلفين يقبل بعضهم بعضا ولا يسعى بعضهم لإفناء البعض الآخر ، فقد أدركت البشرية بعد تجارب مريرة أن الخاسر الأول من عدم الاستقرار وغياب الأمن والسلم الداخلي هم أنفسهم قبل غيرهم.
واليوم حيث أصبحت حدود الدولة الحديثة تجمع مختلف الأعراق والقبائل والشعوب والملل والأديان ، فإن ثقافة التعايش السلمي وقبول الآخر قد باتت أكثر أهمية من ذي قبل .. وأصبح لزاما على كل دولة أن تسعى لترسيخها بين أبناء الوطن الواحد ، وتشرع من النظم ما يقوم على حمايتها من يد الغدر والاغتيال .. إذ لو فقدت هذه القيم الأصيلة فستعاني الدولة من عدم الاستقرار ومن مخاطر عديدة تتعلق بالأمن والسلم المجتمعي.
لذلك فإن كل حكومة عاقلة ومدركة لمصالح أبناء شعبها تعمل على أن ترسخ في أذهان المواطنين قيم الحوار والتسامح وتقبل الآخر ، وباتت الحكومات الرشيدة تتخذ من الضمانات والوسائل ما يكفل المساواة بين أبناء الشعب ويأخذ على يد كل من يحاول تهديد الاستقرار أو الإضرار بالغير.
وكم كان الدين الإسلامي سباقا في هذا المضمار الحضاري ، حيث ترسخت تلك الثقافة على يد حضرة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا من اليوم .. وحين قامت دولة في المدينة المنورة وسلم أهلها زمام الحكم والقيادة لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، كان أول ما قرره ذلك النبي الكريم هو وضع أسس متينة وراسخة للسلام في المجتمع ، وضمان حقوق الفئات المقيمة في المدينة كافة وعلى رأسهم اليهود ، فعقد معهم معاهدات تكفل لهم حقوق المواطنة ، وصدرت أول وثيقة حضارية مدنية في المدينة تحدد حقوق المواطنين وواجباتهم بغض النظر عن دينهم وجنسهم وانتمائهم .. ومازالت وثيقة المدينة إلى اليوم دستورا يمكن تدريسه والافادة منه.
ورغم مجيء الإسلام في مجتمع مليء بالتحيزات الدينية والعرقية وحتى الإنسانية حيث كانت النظرة للمرأة مهينة إلى حد كبير ، إلا أن الإسلام قام بثورة شاملة وسلمية على كل تلك التقاليد البالية فأزهقها ، وأحل محلها قيم الاحترام والمساواة والتعايش السلمي المحترم بين الجميع.. ولم يستغل رسول الإسلام تلك العواطف الدينية المتأججة في نفوس المؤمنين الجدد ليمارس القهر والإكراه والإقصاء لغير المؤمنين .. بل على العكس ، فقد أعلن بصوت عال أن : " من آذى ذميا فقد آذاني " وفي رواية : " فأنا خصمه ، ومَن كنتُ خصمه خصمتُه يوم القيامة "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا .. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : " أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وهو تعهد شخصي من رأس الدولة بحماية المواطنين من غير المسلمين لئلا يتعرض لهم أحد بسوء تحت أي ذريعة.
بل حتى بعد أن أذن الإسلام لأبنائه المستضعفين بالقتال ردا للعدوان الذي طال ضدهم لسنوات ، وأدى لتهجيرهم قسرا من بلادهم وفقدان أموالهم .. فإن الإسلام لم يسمح لأتباعه المظلومين بممارسة الظلم على غيرهم في المدينة ، فمن ذاق طعم الظلم أنى له أن يظلم غيره .. ولم يجعل الإسلام أتباعه حاكمين على غيرهم باسم الله ، بحيث من خالفه في أمور الدنيا فقد خالف الله تعالى .. بل كانت وصية النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم لأتباعه في تعاملاتهم مع العدو المتحصن في حصونه محاربا للمسلمين : " إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله .. فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك "
فما أروع هذا التعليم الراقي مع العدو المحارب ، وما بالنا حين يكون التعليم مع المواطن المسالم في بلد يحكمها أهل الإسلام .. إنه لا يقبل أن يجعل المسلم لمجرد كونه على الدين الحق حاكما باسم الله ومتحدثا حصريا باسم الدين ، ولك أن تقارن بين هذا التعليم الإنساني المتسامح وبين تعليم آخر يجعل من أتباعه شعب الله المختار ويجعل من سائر الأمم حميرا يركبونها.
يا حسرة على بعض المسلمين الذين لم ينتبهوا لتعليم الإسلام الحقيقي ، فجعلوا من أنفسهم قضاة يصدرون الأحكام على الناس ، ونشأت فيهم أحزاب دينية تظن أن الله تعالى لم يهد أحدا سواهم ، فهم فقط الذين يمتلكون الحقيقة المطلقة ويمثلون الإسلام دون غيرهم .. فكيف تتسع ساحة السياسة المزدحمة بالأفكار والآراء المختلفة المتنوعة لمثل هذا التصور الأحادي العقيم .. ولا عجب فقد حذرنا رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم أن أمته سوف تتبع خطى اليهود والنصارى حذو النعل بالنعل ، فكما قال اليهود سابقا نحن أبناء الله وأحباؤه ، فهكذا ردد بعض المسلمين بأفعالهم وتصوراتهم التي تنظر للعالم غيرهم نظرة استعلاء وإقصاء.
وحتى في تعليم المسيحية ، فقد أسس المسيح عيسى عليه السلام مبدأ واضحا في أمور الحكم والسياسة فقال : "دع ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله" .. فهل التزم المسيحيون بهذا المبدأ في حياتهم السياسية ؟ الحقيقة أنهم أيضا قد نشأت فيهم أحزاب دينية ترتدي لباس الحقيقة المطلقة وتقود بلادها داخليا وخارجيا إلى دمار مهلك نتيجة التعصب وكراهية الآخر حتى ولو كان شريكا في الوطن (وليست محاكم التفتيش والحروب الصليبية منا ببعيد).
واليوم رغم الانفتاح الذي لم يسبق له مثيل ، فإن العالم يعاني من زيادة نبرة التطرف والعنف وارتفاع أصوات التفاسير الدينية الخاطئة والخطيرة في آن واحد .. تلك التفاسير التي تدفع معتنقيها إلى ممارسة العنف والقتل وأفعال الكراهية، وترسخ في نفوسهم شعورا بالاستعلاء العقائدي ما يستحيل معه معايشة غيرهم في أمن وسلام.
ولو أن أتباع هذه التفاسير الدينية المحرفة كانوا من عامة الناس في بلادهم ، أولم يكن لهم تأثير سياسي أو نفوذ محلي لكان الأمر هينا ، ولربما كان من السهل احتواء خطر قناعاتهم المتطرفة ومواجهتها بالحوار والنقاش والتفنيد
لكن المسألة تزداد خطورة حين يكون هؤلاء هم أصحاب القرار في البلاد وذوي التوجهات السياسية .. وتكون الكارثة حين يشكل هؤلاء حزبا سياسيا باسم الدين الذي يعتنقونه.
إن آفة مجتمعنا اليوم هو ما يسمى بالأحزاب الدينية لا سيما الأحزاب اليهودية .. تلك الأحزاب التي قامت على أساس رؤية ايديولوجية محددة مستندة على نصوص من الكتاب المقدس ، وبالتالي فإن قناعاتها غير خاضعة للبحث أوالنقاش ، بل هي عقيدة لازمة ورؤية مقدسة لابد من تنفيذها ، ولا مجال لديها لقبول الرأي الآخر وتقبله .. بل تنظر للآخرين حتى من شركاء العمل السياسي نظرة استعلاء كونهم مفرطين في أمر الدين ومنحرفين عن نهجه الصحيح حسب اعتقادهم.. وأخطر ما في الاحزاب الدينية السياسية أنها تتسلق للحكم بسلم الديمقراطية وعندما تصل الى سدة الحكم (ترفسه). وتسن قوانين عنصرية اقصائية لا تسمح لغيرها (المخالف لها) باستخدامه.. ومن أسف أن المجتمع الإسرائيلي لا يقدر خطورة تلك الأحزاب وهذه التيارات كما لم يستوعبها العرب من قبل حتى ظهرت داعش وأقامت المذابح لكل مخالفيها باسم الدين ، عندها أدرك الكثيرون كارثية هذه الافكار.
ورغم أن الأديان قد نزلت من عند الله لإقرار السلام وغرس المحبة والاحترام بين البشر كافة ، إلا أن الأحزاب الدينية عامة واليهودية على وجه الخصوص قد تركت تعاليم الكتاب المقدس المتعلقة باحترام الغريب والعدل تجاهه ، وتمسكت بنصوص خطيرة تغذي لدى المؤمنين بها نظرة اقصائية واستعلائية مهددة لأمن المجتمع واستقراره.
ولك أن تتخيل كيف تكون نظرة سياسي ديني يؤمن حرفيا بكل ما ورد في التوراة حين يقرأ نصوصا في كتابه المقدس تقول بأن العرب الكنعانيين هم ملك له وأنهم عبيد لدى اليهود .. ورد في التوراة (سفر التكوين من 22 إلى 27) ما يلي :
فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجا
فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ،
فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ
وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ
لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ
هل يتصور مثل هذه الرؤية في العمل السياسي ؟ ألن يدفع هذا الاعتقاد الأحزاب الدينية بكل بساطة لأن تسعى لتحقيق أحلامها الدينية من خلال الوصول لسدة صنع القرار وسن التشريعات العنصرية الإقصائية للعرب المواطنين داخل الدولة ؟ وهل مثل هذا الفكر السياسي الديني يخدم الاستقرار والتنمية أم يطيح بالسلام والأمن الداخلي في المجتمع؟
لعلنا لاحظنا في الفترة الاخيرة ظاهرة خطيرة بدأت تطفو على السطح ، وهي ظاهرة تسمى " يد خفيفة على الزناد " .. حيث يقتل كثير من الابرياء بسبب تحريض وزير الامن أو الخطاب السياسي المتاثر بالدين بما يتعلق بالعرب .. أليس ذلك وغيره من تصرفات رعماء هو نتاج لتلك التغذية الدينية المشبعة بالكراهية ، والتي تملأ عقول الأحزاب الدينية اليهودية ؟
كثيرة هي النصوص الدينية التي تعتبر قنابل على وشك الانفجار ، والتي تحملها تلك الأحزاب ، مترقبة للحظة المناسبة لإشعال فتيل حروب أهلية ونزاعات داخلية لا نهاية لها .. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
ورد في سفر هوشع (13 : 16) ما يلي : "تُجَازَى السَّامِرَةُ لأَنَّهَا قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلهِهَا. بِالسَّيْفِ يَسْقُطُونَ. تُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ، وَالْحَوَامِلُ تُشَقُّ".
وفي سفر الملوك الثاني وردت هذه القصة :
"ثُمَّ صَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْتِ إِيلَ. وَفِيمَا هُوَ صَاعِدٌ فِي الطَّرِيقِ إِذَا بِصِبْيَانٍ صِغَارٍ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَخِرُوا مِنْهُ وَقَالُوا لَهُ: «اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ! اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ!»." (2 مل 2: 23)
فَالْتَفَتَ إِلَى وَرَائِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، فَخَرَجَتْ دُبَّتَانِ مِنَ الْوَعْرِ وَافْتَرَسَتَا مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَلَدًا." (2 مل 2: 24)
فأي تعليم يتم تقديمه إذا كان الرب يعاقب بتلك الطريقة الوحشية صغارا وقعوا في التنمر دون وعي.
وفي سفر المكابيين الثاني 5 : 22 " وامره أن يذبح كل بالغ منهم ويبيع النساء والصبيان "
وفي التثنية 2 : 34 ورد " وَأَخَذْنَا كُلَّ مُدُنِهِ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ، وَحَرَّمْنَا مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ: الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ. لَمْ نُبْقِ شَارِدًا "
وفي سفر التثنية (20 ، 10 : 17) ورد ما يلي :
" حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْح
فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ
وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا
وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ
وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ
هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا
وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا،
بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ "
فهذا هو تعليم أخلاق الحرب في الكتاب المقدس ، أين منها سماحة الإسلام وأخلاقه حتى مع المحاربين.
هذا غيض من فيض كثير من النصوص الدينية المقدسة التي ترسخت في وجدان الأحزاب الدينية اليهودية التي تسعى لكي تحقق أحلامها في دولة يهودية ، فتسن قوانين مجحفة في حق الاخرين وهي تظن أنها بذلك تحسن صنعا وتحقق ما يريد الرب .. ولا يقتصر خطر هذه الأحزاب على غير اليهود بل الحق أن اليهود أيضا من غير المؤمنين بتلك التصورات الدينية المغلقة هم تحت مرمى نيران الأحزاب الدينية .. فهم من وجهة نظرها علمانيون لا يمتون للدين بصلة ، ويسعون لتعويق إقامة حكم التوراة ومملكة الله في الأرض .. ولعل اغتيال الرئيس إسحاق رابين منذ سنوات طويلة كان ناقوس خطر مبكر لم يدركه كثير من اليهود إلى اليوم.
إن ثمة فرقا شاسعا بين الحزب السياسي المدني وبين الحزب الديني .. فبينما يؤمن الأول بقيمة الحوار والتنافس من أجل مصلحة الوطن عن طريق تقديم البرامج العملية القابلة للأخذ والرد والإضافة والحذف ، ولا يعتبر مخالفه خارجا عن الدين أو خائنا للوطن .. فإن الأحزاب الدينية على العكس من ذلك تملك رؤية أيديولوجية وتفسيرا مقدسا غير قابل للنقاش ، وتعتبر من يخالفه خارجا عن الصواب إن لم يكن مخالفا للشريعة .. وهي لا تقبل بمبدأ التداول السلمي للسلطة إلا لمرة واحدة فقط هي تلك المرة التي تصل فيها إلى سدة الحكم ، فهي تصعد سلم الديموقراطية ثم بعد ذلك تزيحه بعيدا إذ لا يجب أن ينازعها أحد في حقها الأصيل.
الحزب الديني يرفع عمليا شعار " من ليس معنا فهو ليس ضدنا فحسب ، بل هو ضد الدين " وهنا يكمن الخطر .. فهو ينظر إلى الفرقاء السياسيين المشاركين له في العمل السياسي بعين القاضي الذي يصدر الأحكام والفتاوى لا بعين الشريك في حمل هم الوطن الباحث عن تحقيق مصالحه.
لقد بين القرآن الكريم شروط استحقاق الحكم والسلطان في الأرض مؤكدا أن هذا ليس تعليم الإسلام فحسب ، بل هو سنة الله الجارية التي وردت في الكتاب المقدس أيضا ، حيث قال تعالى في سورة الأنبياء : " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (106) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (107) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (108) "
وهذا هو عين التعليم الإلهي الذي ورد في الكتاب المقدس بحق الغريب من سائر الأمم الأخرى ، وهو حجة على كل متمسك بهذا التعليم لأنه يوضح بجلاء متى تستمر الدولة ومتى تنهار وتبيد ..
فقد ورد في سفر المزامير (37 ، 27:29) ما يلي :
حِدْ عَنِ الشَّرِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ، وَاسْكُنْ إِلَى الأَبَدِ
لأَنَّ الرَّبَّ يُحِبُّ الْحَقَّ، وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ. إِلَى الأَبَدِ يُحْفَظُونَ. أَمَّا نَسْلُ الأَشْرَارِ فَيَنْقَطِعُ
الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأَبَدِ
أليس هذا هو عين ما جاء في تعليم الإسلام !! فالله تعالى ليس بينه وبين أحد من الأقوام نسب ولا واسطة ، فكل من تحلى بالصدق والعدل والسلام فقد استحق أن يرث الأرض ، وحين يعرض عن العدل ويكون له مكاييل مختلفة يكيل بها فيعامل هؤلاء بكيل وأولئك بكيل غيره ، حينها يدمر الله دولته تدميرا .
وعن حق الغريب أوصى الكتاب المقدس ألا يتم اضطهاده والتضييق عليه بل تكون الدولة قائمة على المساواة والمواطنة ، فأين الأحزاب الدينية خصوصا من هذه التعاليم
جاء في سفر الخروج (22 : 21 ) ولا تضطهد الغريب و لا تضايقه لانكم كنتم غرباء في ارض مصر.
وفي اللاويين ( 19 : 34 ) "كَالْوَطَنِيِّ مِنْكُمْ يَكُونُ لَكُمُ الْغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ، وَتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ"
وفي التثنية ( 27 : 19 ) "مَلْعُونٌ مَنْ يُعَوِّجُ حَقَّ الْغَرِيبِ وَالْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِينَ
وعن العدل والإنصاف بين الجميع جاء في سفر التثنية 25 (13 : 19) ما يلي :
لاَ يَكُنْ لَكَ فِي كِيسِكَ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ
لاَ يَكُنْ لَكَ فِي بَيْتِكَ مَكَايِيلُ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ
وَزْنٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، وَمِكْيَالٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ
لأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ ذلِكَ، كُلَّ مَنْ عَمِلَ غِشًّا، مَكْرُوهٌ لَدَى الرَّبِّ إِلهِكَ
اُذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْرَ
كَيْفَ لاَقَاكَ فِي الطَّرِيقِ وَقَطَعَ مِنْ مُؤَخَّرِكَ كُلَّ الْمُسْتَضْعِفِينَ وَرَاءَكَ، وَأَنْتَ كَلِيلٌ وَمُتْعَبٌ، وَلَمْ يَخَفِ اللهَ
فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ.
. لاَ تَنْسَ
وعلى القادة اليوم أن يصغوا جيدا لتلك الكلمات ، وعليهم ألا ينسوا فيقعوا فيما وقع فيه أقوام حل عليهم غضب الله وعذابه ، وهلكت ممالكهم وصارت أثرا بعد عين .. وعليهم ألا يفسحوا المجال للتطرف والعنصرية والإقصاء تحت أي عذر من الأعذار.
باختصار يمكن القول إن الأحزاب الدينية اليهودية مسمار حقيقي في نعش الأمن والسلم المجتمعي ، وتصوراتها الخاصة بإقامة دولة دينية لن تقيم دولة لليهود كما يتصور الكثيرون ، بل ستكون نهاية الدولة القائمة ، فسنن الله تعالى لا تجامل ولا تحابي ، وحين يتسلم أحد زمام الحكم بقدر الله تعالى فإن ذلك مشروط بإقامة العدل والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات .. وإلا فإن الله تعالى هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو هلى كل شيء قدير..
[email protected]
أضف تعليق