بقلم: معين أبو عبيد
من يقرأ كتاب المجنون والبحر قد يصاب بالجنون؛ لأنه يجعل القارئ يغوص في أعماق النفس ليكشف لنا الكنوز الدفينة. الإبحار في هذا الكتاب يختلف عن كل غوص وإبحار، فهو متعة بحد ذاتها، وقد تكون خطيرة، قد تأخذك إلى عالم آخر لا يشبه أي عالم، يصعب الرجوع وفكرك غير مشوش، من عمق المعاني وأسراره التي تلعب بمشاعرك وتُدخلك في عالم من المتاهات وتجرك إلى أمواجه العاتية التي تلعب بك وبمصيرك. تشعرك أنك إنسانٌ آخر تتلاعب به الأقدار والأحلام المتراقصة، تحطّم قيوده، يبحث عن سبل الرجوع إلى ذاته، لكن عبثًا.
لكل بحر من بحور المعمورة خصوصيّة لا تشبه أي بحر وهو كالبحر، كلما تأملت جماله غرقت في سحره الرائع، تأخذك أمواجه ورماله الساحرة إلى عالم من الغموض المثير للخيال في أوج سكونه يكون كالطفل الوادع ويتحرك إن تحركت أمواجه، يصبح طفلا يريد أن يركض في كل اتجاه.
أهدني مشكورا أستاذنا الكرملي الشاعر الشامخ "وهيب نديم وهبة" طبعته التاسعة من كتابه المجنون والبحر جاء فيها: "أستاذنا القدير، الأديب المرموق المحترم معين أبو عبيد، كم يسعدني تقديم كتابي المجنون والبحر الطبعة التاسعة- بالاشتراك مع صديقي المترجم حسن حجازي للإنجليزية" مع محبتي وهيب.
لا أخفي، أنّ عنوان الكتاب وكلمة الإهداء حرّكت مشاعري وشدتني لأكتب هذه السطور:
بداية، أقول وأنت يا مجنون "أي الكاتب"، بلغت ببلاغة مطلقة في أداء دورك على مسرح الحياة بامتياز وكنت المجنون الذي جعل القارئ الحضاري يجنّ.
نعم، قد يكون المجنون في هذا الزمن العصيب عاقلًا، والعاقل مجنونًا، والإنسان المتسامح
الطيّب والمعطاء منبوذا. كيف لا؟ ونحن في زمن الطمع، انعدام العدالة، نكران الجميل وسيطرة الإتاوات وشريعة الغاب، سيدة الموقف وثقافة العنف بكافة مظاهره أكثر واقعية، وقد يكون الجنون هروبًا أو عودة إلى الماضي لمواجهة الحقيقة والواقع؛ لأنه يرى الجنون بنظرة مختلفة عن الآخرين؛ ففي نظره قد يكون أكثر واقعية من الواقع ذاته الذي نعيشه لأن الصراحة، المصداقية، والشفافية منبوذة بل سطحية سخيفة في حياتنا.
ويضيف، نعم العالم يسقط يسقط في الرذيلة والكل يتحدث عن الأخلاق والإنسانية المصطنعة، بينما تداس القيم الحقيقيّة، باسم الشهامة والشرف؛ ممّا جعلنا نشك بأنفسنا لنفتش عن عالم مثالي، عالم لا نجده في الواقع كالمدينة الفاضلة التي أرادها أفلاطون. يطالب بإلغاء الطبقية والشرائع والتعصب الديني بأسلوبه وطريقته، وكما قال الكاتب الزميل محمد نفاع في كلمته التحليلية:
"عالم اليوم غول أسطوري، حاقد يعصر فرائسه بأنيابه، هذا العالم المجنون بحاجة إلى مجنون والجنون واسع رحب والبحر واسع رحب والحب واسع والنقمة على الظلم والإظلام رحبة عميقة".
إن اختيارك عالم البحر ليكون عالمك الخاص كان اختيارًا موفقًا، فالبحر لا يبوح بسر أحد لأحد، يحفظ الأسرار، يزيل الهموم والاكتئاب، فكرك النير رسم تحفة فنية رائعة أتقن وانتقى ألوانها بامتياز.
في هذا المقام أقول عندما يكون الحديث عن أمثالك يكون الحديث عن شاعر عملاق بثقافته الغنية، رؤيته الحضارية وكلماته الراقية التي تخلق مشاهد درامية وحوارات فكرية خارقة عميقة بمعانيها، لم تكتب لكل عابر سبيل، إنّه يقول كلمته بكل ثقة ووجدانية بأسلوب عميق مبهم غريب ولغة متمكنة يفجر من خلالها ينابيع الإبداع الأدبي وفي داخله شعلة متقدة أنارت وأثرتِ الحركة الأدبية والثقافية.
لك مودتي وتقديري على أمل اللقاء القادم في لوحة جنونية جديدة.
[email protected]
أضف تعليق