ما حدث معي قبل أيام فور خروجي من محكمة سخنين الشرعية وبعد أن أنهيت مداولاتي وجلساتي فيها وهممت أن استقل سيارتي والعودة إلى مكتبي، وإذ بأحد المارة وزوجته، وأصدقكم القول أنني لا أعرفهم، يضحكون ويقولون لي: "شو أستاذ الطلاق ماشي مثل الحلاوة".
أصدقكم القول أن هذه العبارة استوقفتني وهزت كياني وأخذت مني تفكيرًا عميقًا منذ أن ركبت سيارتي وحتى وصولي إلى مكتبي في بلدي (عرابه)، وقلت في نفسي ألهذه الدرجة أصبح الطلاق مألوفا لنا؟ وأصبح أمرًا عاديًا عندنا؟ وأصبح مقبولا علينا ولم يعد يحرك فينا ساكنا؟ لماذا؟!!!!!.
قلت في نفسي، ربما قالها هذا الرجل بضحكة وبسخرية وبتهكم، إلّا أنها حقيقة تعكس واقعًا أليمًا نعيشه وربما لا نُلقي له بالا يقوض مضاجعنا ويهز أركان أُسرنا ويدمر مجتمعنا.
لقد تغيرت مفاهيمنا وقيمنا ونظرتنا للأمور وتعاملنا اليومي معها لدرجة التهاون وقبولها على أنها أمرًا عاديًا ولذا ليس غريبًا أن نسبة الطلاق في مجتمعنا في الداخل الفلسطيني آخذة بالازدياد سنة بعد سنة إلى أن وصلت لنسبة 38% تقريبا العام المنصرم وفقا لإحصائيات أجرتها إدارة محاكمنا الشرعية.
إلى أين سنصل؟؟ وما الذي تغيير فينا؟؟.
نعم لقد شرع الله لنا الطلاق ولكنه أبغض الحلال عند الله، وهو الاستثناء للأصل الذي هو ديمومة الزواج واستقراره وبناء الأسرة الصالحة، فالزواج باعث على الطمأنينة والاستقرار وحياة النفوس.
والطلاق لا يكون عند أول مشكلة تواجه الأزواج وإنما يكون بعد استفحال النزاع والشقاق بينهما، ويكون حال تعذر عليهما استمرارية الحياة الزوجية لتعرضها لما يهدد استمراريتها ويقوض أركانها ويكون الأزواج قد وصلوا إلى طرق مسدودة، نعم في مثل هذه الحالات وبعد فشل كل محاولات الإصلاح بينهما ورأب الصدع يكون الطلاق مشروعًا لحفظ الأنفس من ضرر أكبر لو استمرت الحياة الزوجية بينهما والتي يستحيل المقام والعيش معها.
كم هي الحالات الكثيرة التي عالجتها أنا والعديد من زملائي العاملين في مجال الأحوال الشخصية والمرافعات الشرعية وكانت نهايتها الطلاق والتفريق بين الأزواج دون أي مبرر أو مسوغ يذكر، وإنما لخلافات بسيطة كان بالإمكان التغلب عليها وحلها والحفاظ على وحدة الأسرة واستمرارها، إلا أن التعنت اللا مبرر له من قبل أحد الأزواج أو من كلاهما أو من أهليهما هو من أوصل الزوجين إلى الطلاق وأدى إلى تشتت الأسرة وضياعها وكلنا يعرف ما هي تبعات ذلك على الأسرة والمجتمع.
كل ذلك باعتقادي لأسباب عدة ولكن أهمها:
1- بُعدنا عن ديننا الحنيف وعدم فهمنا الحقيقي لقدسية الرابطة الزوجية ومعنى الزواج وبناء الأسرة والمراد منهما ومفهوم المودة والرحمة الذي هو مبناها.
2- عدم تقديسنا لهذا الرباط الغليظ العظيم الذي جعل الزواج باعثًا على الاستقرار بين الأزواج مؤسسًا لحياة كريمة هنيئة ملؤها المودة والرحمة، فجعل الزواج كل من الزوجين سترًا للآخر وعونا له "هن لباس لكم وانتم لباس لهن".
3- الاستقلال المادي عند المرأة الذي جعلها تلهث وراء كل ما استحدثه الغرب (غزو فكري أخلاقي) فأصبحت المرأة سلعة ليست إلا، الأمر الذي أدى بخروجها عن طاعة زوجها وعدم القيام بواجباتها الزوجية كما يجب.
4- عدم تدخل الأهل وذوي الشأن بشكل إيجابي وأخذ دورهم الفاعل بالإرشاد والنصح والتوجيه لرأب الصدع بين الأزواج.
نعم ان شر البلية ما يبكي، لأن حالنا فعلا يبكي، فازدياد نسبة الطلاق مؤشر خطير لحالنا وواقعنا، هذا الطلاق الذي يهدم الأسرة ويهدم المجتمع ويبعث على الفرقة بين الناس ويثير العداوة والبغضاء والشحناء وينمي العنف ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، ونحن لا نحرك ساكنا، هذا بالخطر يداهم بيوتنا من حيث لا ندري ونحن نقف مكتوفي الأيدي.
لقد جُعل الطلاق آخر العلاج للحالات الميؤوس منها والمستعصية كما يقال "إن آخر العلاج الكيّ"، بمعنى أنه يجب استنفاذ جميع وسائل الإصلاح بين الأزواج وجسر الهوة بينهما وتقريب وجهات النظر من أجل اتاحة الفرصة لاستمرار الحياة الزوجية وديمومتها والحفاظ على الأسرة والأولاد، وفي حال تعذر ذلك بعد كل الجهود التي بذلت يصار إلى التفريق بينهما والطلاق، أما أن يكون الطلاق ابتداءا عند أول مشكلة فهذا لا يعقل وهذا يدل على أن هناك خلل عظيم في تربيتنا ومفاهيمنا التي استحدثناها بعيدًا عن شرعنا الحنيف.
فان كان لا بد من الطلاق فليكن كما أمر الله تعالى "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، "ولا تنسوا الفضل بينكم"، دون تجريح واهانات ودون كشف أسرار الحياة الزوجية حفظا للأنفس والأعراض مع أداء الحقوق التي فرضها الله على الأزواج والمحافظة على الأولاد إن وجدوا وتجنيبهم الصراع بين الأبوين والعمل على ما يخدم مصلحتهم من أجل صلاحهم وصلاح المجتمع بأسره، فهم فلذة الأكباد ورجال المستقبل الذين سيبنون مجتمعا جديدا.
وأخيرا نقول: "الصلح خير"، "وإن تعفوا وتصفحوا خير لكم والله يحب المحسنين"، "وعاشروهن بالمعروف".
اللهم أعنا على فعل الخير والتوفيق بين العباد وإصلاح ذات البين ووفقا لما فيه صلاح وخير لنا ولأسرنا ومجتمعنا وديننا.
والله غالب على امره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[email protected]
أضف تعليق