في حقبة ما قبل الكورونا، كان الافتراض أنّ العمل من المنزل يعمل على تقليص عدم المساواة، إذ إنه يُتيح إمكانيات عمل لأجزاء أكبر من السكّان، يقلّص الفجوات الثقافية، ويتيح دمج سكّان الهوامش في شركات المركز. ولكنّ التجربة العملية أثبتت أنّ الانتقال إلى العمل من البيت كان من نصيب الشرائح القوية وزاد الفجوات في التشغيل، ليسوء وضع سكّان الهوامش الجغرافية والاجتماعية. تقول موريا بروت، مُديرة قسم التنظيم في ذراع العمل في وزارة الاقتصاد: "إنّ الإدراك أنّ العمل عن بُعد، في ظلّ غياب الملاءمات المطلوبة، يمكن أن يكون سيفًا ذا حدَّين بالنسبة لإمكانية النموّ الشخصي والاقتصادي - أمرٌ يشغلنا كثيرًا في ذراع العمل".
"فمنذ ما قبل الكورونا أدركْنا أنّنا بحاجة إلى النظر إلى عالَم العمل المستقبلي، الذي لم يعُد أمرًا بعيدًا"، توضح دانييلا جاونو من جوينت تڨيت، مُديرة برامج كبيرة، بينها برنامج "remote" - برنامج مشترَك لذراع العمل في وزارة الاقتصاد والصناعة وجوينت تڨيت. وتتابع: "بدأنا ندرس ما هي أنواع العمل المرِنة وأين يمكن أن تكون هناك مرونة على نطاق أوسع من العمل كأجير - مرونة تتيح دُخول جماهير جديدة إلى سوق العمل أو توسيع مجال الإمكانيات التي يمكن أن يختاروا منها. ثمّ أتت الكورونا التي ضاعفت الحاجة إلى العمل المرِن؛ المُرونة في مكان العمل، وقته، نوعه، ونطاقه. تعرّفنا إلى أنواع تشغيل مختلفة مثل التشغيل الذاتي، تعاونيّات العمّال، تقسيم الوقت بين العمل كأجير والعمل كمستقلّ، تزويد الخدمات لعدّة أرباب عمل ومن أماكن متنوعة". وتضيف بروت، التي تُدير البرنامج بالتعاون مع جاونو: "من الجدير بالذِّكر أن البرنامج جزءٌ لا يتجزأ من مجموعة نشاطات أكبر من ناحية ذراع العمل. فالفهم أنّ عالَم العمل يتغيّر أمام أعيننا تضع علينا واجب الاستعداد، سواء من ناحية التنظيم أو من ناحية الأدوات والحوافز التي يمكن للحكومة أن تعرضها".
وفق جاونو، الافتراض الأساسي أنّ العمل عن بُعد يساعد على تقريب سوق العمل وإتاحتها للشرائح البعيدة دُحض تمامًا خلال فترة الكورونا. فهي تُخبر: "ما نفهمه هو أن سوق العمل في إسرائيل غير مستعدّ للتشجيع على العمل المرِن وأنه يستطيع التعامل بالأساس مع تشغيل تقليدي لموظّفين. لذلك لا يكون استغلال فرص التشغيل في سوق العمل إلى الحدّ الأقصى، ممّا يمسّ بالأجر وبالإنتاجية".
حِكر على المجتمعات المُرتاحة ماديّا
أجرى قسم الاستراتيجيات التابع لذراع العمل في وزارة الاقتصاد بحثًا يدرس إمكانية العمل عن بُعد في إسرائيل، بالاستعانة ببيانات استطلاع موارد بشرية لدائرة الإحصاء المركزية وبيانات موازية من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). تبيّن من البحث أنّ 38% من العاملين في دول OECD يمكنهم العمل عن بُعد، مقابل 47% في إسرائيل، التي تحلّ في المركز الثاني بعد لوكسمبورغ. لكنّ أزمة كورونا كشفت وجود فجوات واضحة. فإذا كان التوقّع هو أنّ العمل من المنزل يمكن أن يسدّ الفجوات، كشفت الكورونا وأوضحت الفجوات. وبيت القصيد هو أنّ هذه الإمكانية غير مُتاحة للجميع.
وفقًا لاستطلاع ماكنزي لشهر تموز 2021، يتبيّن أنّ 90% من المديرين يتوقعون أن يكون العمل عن بُعد جزءًا من مؤسَّساتهم في المستقبل، لكنّ 68% ليس لديهم برنامج مرتّب لنظام العمل الهجين. وقد ظهرت قلّة الاستعداد في الاقتصاد المحليّ بكلّ حدّة خلال الأزمة، لا سيّما في المجالات ذات الإنتاج المنخفِض.
وتضيف جاونو: "حين نُجري تقسيمًا للشركات والمؤسسات في سياق التعامل مع آثار كورونا، نرى أنّه في مجال التقنية العالية والمؤسسات المالية أُجريت ملاءمات بنسبة كبيرة للعمل عن بُعد، فيما لم تنجح الشركات والمؤسسات في مجالات مثل البناء والبيع بالمفرّق في إجراء التغيير المنشود. إضافةً إلى ذلك، يمكن أن نرى نزعةً عامّةً إلى عدم الاستغلال الكافي لإمكانية العمل عن بُعد في جميع المجالات. والفجوة تنبع من عوامل مختلفة، بينها انعدام أدوات إدارة وقياس مُلاءَمة من جهة أرباب العمل، إلى جانب الثقافة التنظيمية ومشاكل الثقة بين المُديرين والعمّال. أما من جانب العمّال فيمكن أن نرى أنّ التحدي الرئيسي هو نقص المهارات المطلوبة إضافة إلى العقبات الحضارية. كثيرًا ما يكون العمّال الذين يدخلون إلى أسفل الهرم ويشغلون وظائف محدّدة، هم أوّل الخارجين لافتقارهم إلى المهارات المناسبة. وحين ننظر إلى الأمر بعُمق ندرك أنّ الأمر لا يزال حِكرا على المجتمعات المرتاحة مادّيا".
وفق استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، يرغب 80% من الموظّفين في الاستمرار في العمَل عن بُعد حتى لو أثر الأمر على ظروف عملهم، فيما يعتزم 90% من أرباب العمل مواصلة تشغيل موظّفيهم بهذه الطريقة .
"علينا أن نفهم أنّ الملعب تغيّر. فمَن لا يمكنه العمَل عن بُعد يبقَ في الخلف". تتابع مؤسّسةً كلامها على ما يلي: قبل الكورونا، وفق استطلاع ديلويت كان العمل عن بُعد مقتصرًا على 4% فقط، أمّا في فترة الكورونا (الإغلاقَين الأول والثاني) فقد ارتفعت نسبة الذين يعملون من المنزل ووصلت في الذروة إلى 43%، إلى أن استقرت على 10% انتقلوا إلى العمل من البيت.
"العمل عن بُعد باقٍ ويتمدد"
إدراكًا للوضع الجديد والحاجة المتزايدة - أطلقت ذراع العمل في وزارة الاقتصاد وجوينت - تڨيت مؤخرًا برنامج "REMOTE - مقياس جديد للعمل عن بُعد". البرنامج مُعَدّ للمؤسسات التي تواجه تحدّيات الانتقال إلى العمل عن بُعد، بهدف خلق مجموعة توصيات، أدوات، وممارَسات عمل ناجعة وريادية في المجال، ملاءَمة لسوق العمل الحاليّ في إسرائيل.
يقترح البرنامج سلسلة من اللقاءات المهنيّة، بمرافَقة مختصّين من مجالات مختلفة، بهدف بلورة نموذج عمل مُلاءَم للتشغيل عن بُعد عبر إتاحة الأدوات، المعلومات، والمعرفة لتُستخدَم لخير أرباب عمل عديدين في الاقتصاد المحليّ. هدف اللّقاءات هو كشف وجهات نظر واعتبارات مُحتلَنة لبلورة حلول مُلاءَمة عبر التعلم المشترَك، تجميع رؤى وخبرة متراكمة من الفترة الأخيرة - التعلم من النجاحات وكذلك من الأجزاء الأقلّ نجاحًا.
يأتي المشارِكون من اللّقاءات من مؤسسات سبق أن نجحت في القيام بالتغيير وتريد مشارَكة المعلومات، الرؤى، والمعضلات، وكذلك من مؤسسات ترغب في مساعَدة مهنية في عملية الانتقال أو في توسيع العمل عن بُعد. خلال اللقاءات، يمكن للمشاركين أن يجرّبوا أدوات ومرافقة ملاءَمة للحاجات التي تنشأ. تُنشَر النواتج، الأدوات، والحلول التي تُطوَّر، وتساعد على الانتقال بنجاح إلى العمل عن بُعد للمؤسسات الراغبة في ذلك في مجالات، مواضيع، ووظائف متنوعة. "وُلد برنامج remote كجزءٍ من هذا الواقع، بهدف إتاحة تحقيق إمكانات العمل عن بُعد إلى أقصى حدّ لصالح الاقتصاد بأكمله وزيادة الإنتاج، مع التشديد على الشرائح المهمّشة التي تستصعب القيام بالتغيير ويمكن أن تتسرّب من سوق العمل، إضافةً إلى المؤسسات التي يُطلَب منها إجراء الانتقال، لكن ليس لديها مجموعة الأدوات الضرورية لهذا الهدف.
"الانتقال إلى العمل عن بُعد في فترة كورونا، الذي كان اضطراريًّا، والإدراك أنّ العمل عن بُعد باقٍ، يقويّان الاستنتاج أنه من أجل الانتقال من أمر اضطراري إلى أمر طبيعي، على المؤسسات أن تعيد الاستعداد للانتقال الذي يشكّل استمرارية لوقتٍ طويل، لا حدثًا لمرة واحدة. يدرك الجميع اليوم أنه دون مساعَدة، سواء للفئات المحدّدة أو للمؤسسات المختلفة، قد تصبح هذه الساحةُ طريقةً إضافية لزيادة الفجوات في المجتمع، وأننا على مفترَق حاسم"، توضح جاونو.
حِكر على المجتمعات المُرتاحة ماديّا
وفق استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في آذار الماضي، إحدى الشرائح الأكثر تضرّرا من الواقع الجديد هي المجتمع العربي. وللأمر أسباب متعددة - سواء كان الحديث عن إلحاق بالضرر بأشخاص أو مهَن أجورها منخفضة والقدرة على القيام عن بُعد قليلة، أو عن مهَن مثل المطاعم والضيافة، التجارة، التربية والتعليم، المواصلات، والسياحة - التي فيها نسبة مرتفعة من العاملين العرب في مهَن جسدية. تُضاف إلى ذلك المعرفة الرقمية المنخفضة والبنية التحتية السيئة للإنترنت في مناطق سكنية عديدة، فتكون النتيجةُ ضررًا كبيرًا وعميقًا. تعلّق جاونو على البيانات قائلةً: "فيما نجح المشغّلون والعاملون اليهود في تقليص مدى الضرر الذي لحق بهم، فإنّ البنى التحتية في البلدات العربية والمهارات الرقمية للعرب تتطلب استثمارًا طويل الأمد".
قد يكون هذا هو السبب أنه بين جميع المؤسسات والشركات التي شاركت في الدورة الأولى من البرنامج، برزت خصوصًا شركة "بابكم"، التي تقدّم خدمات هاتفية تقنية ومُحوسَبة لشركات كبيرة في السوق. تأسست الشركة عام 2009، وهي تُشغِّل اليوم ما يقارب 3,200 عامل، وهي موجودة في 14 مركزًا في الشمال والجنوب. "تأسست شركتنا لتعزيز مناطق الأطراف ولمنح فرصة للعرب واليهود فيها كي يعملوا بكرامة"، يخبر الرئيس عماد تلحمي مُضيفًا: "نشغّل أشخاصًا من الجنسَين ومن جميع المجتمعات، لكنّ معظم عاملينا هم من المجتمع العربي على اختلاف أطيافه - المسلمين، المسيحيين، الدروز، البدو من الشمال والجنوب، والشركس. كما أنّ العاملين من المجتمع اليهودي لدينا هم متنوعون".
تعمل شركة بابكم وفق نموذج تنظيمي مميَّز قائم على الاحتواء والقبول، يتعامل مع كلّ عامل بشكل شخصي، يراعي ثقافته الذهنية، حاجاته المميزة شخصيًّا، دينيًّا، اجتماعيًّا، وعائليًّا، من أجل النجاح في استيعابه وتقبّله حتى النهاية بالطريقة المثلى له وللمجتمع. يوضح تلحمي: "يجب أن ندرك أن حاجات البدوي في النقب تختلف عن تلك التي لعربي مسيحي من الشمال. ونحن هنا كي نمنح كلّ عامل الاستجابة الملائمة والدقيقة له".
من الطبيعيّ أن تواجه شركة بابكم، مثل شركات عديدة في البلاد والعالَم، تحديات كبيرة خلال فترة كورونا. يتذكر تلحمي: "رؤيانا مُسبقًا كمنظمة هي منح فرص عمل ومساعدة الشرائح الضعيفة في الأطراف. حين بدأت الكورونا وبدأ الكلام عن فصل العمّال والإجازات دون راتب، اتخذنا قرارًا في الإدارة أن لا نفصل أي عامل من الشركة، رغم أنّ بعض زبائننا تعرّضوا لأزمة وأنّ نطاق العمل انخفض. قرّرنا أن ننتحر من أجل العمّال وأن نجلب لهم مشاريع أخرى. فلا يُعقَل تطبيق الرؤيا فقط حين يسير كلّ شيء على ما يُرام، أمّا حين نواجه صعوبات فنتنازل عن الرؤيا والقِيَم. وأنا سعيد لأننا لم نفصل أحدًا، بل نجحنا في النموّ".
الناس بعد الكورونا أصبحوا مُدلَّلين
"قبل الانضمام إلى برنامج Remote، بدأنا بالانتقال إلى العمل المنزلي، لأنه كان علينا الاهتمام بأن يعمل 50% من عاملينا في البيت"، يخبر تلحمي. ويضيف: "رأينا مع الانتقال أنّ العمل من البيت يتضمن تحدّيات وصعوبات كثيرة، ما قادَنا إلى التفكير بعُمق في مسائل مثل تجنيد العاملين عن بُعد أو الإرشاد عن بُعد. أجرينا بحثًا حول كيفية استخدام نُظم معلوماتنا عن بُعد، كيفية المحافظة على السلامة، كيفية منح العامل من البيت أفضلَ دعمٍ، من حيث الرفاه والاهتمام، بحيث يشعر بالانتماء للمؤسسة ولو كان بعيدًا عنها".
إنّ أحد التحدّيات الرئيسية التي يذكرها تلحمي بالنسبة للعمل عن بُعد هو الاتصال بالإنترنت الضروري غالبًا في هذا النوع من العمل. يقول: "بعض العاملين لم يكن لديهم إنترنت، لدى آخرين كان الاتصال ضعيفًا، أما بعض الأشخاص في الأطراف فلم يكن لديهم أصلًا حاسوب في البيت. اشترينا 1,000 حاسوب للناس في البيت رغم عِلمنا أنّ الأمر ليس بسيطًا. بحثنا عن أشخاص لديهم إنترنت في البيت حتى ننقلهم إلى العمل من البيت، ومَن لم يكن لديه إنترنت - اهتممنا بأن يأتي إلى مكان العمل. وزّعنا الأشخاص وفق حاجتهم وساعدناهم في الأماكن الضعيفة. علينا أن ندرك أنّ بعض القرى والبلدات يصعُب فيها إدخال بنية تحتية لإنترنت سريع. هذا استثمار ضخم جدًّا له أيضًا تأثيرات على ثقافة السكّان".
ويتابع: "ثمة تحدٍّ آخر هو الوضع الذي جعل الناس بعد الكورونا مُدلَّلين أكثر. فهناك الكثير من العاملين المُحتمَلين الذين لا يجدون عملًا، ولكن إذا وُجد عمل يصعب كثيرًا تحفيزهم لقبوله. فالناس لا يسارعون كثيرًا للعمل، إذ بدأت تظهر لديهم انتقائية لم تكن موجودة من قبل".
لمعظم هذه التحدّيات حلول في البرنامج الخاصّ لجوينت - تڨيت وذراع العمل، وفق كلام تلحمي. يقول: "إنها منظمة مُذهلة؛ عملها حقيقي ومؤثّر، ومن الممتع رؤية التزامها تجاه المجتمعات المختلفة. في شأن الكورونا التزمت بجمع مؤسسات تتحدث بلغة مشتركة وتجتاز عملية التعلُّم من الزملاء من التحديات المشترَكة. حين تتحاور المؤسسات إحداها مع الأخرى، هناك إمكانية لتتعلّم إحداها من الأخرى وليصبح العمل أكثر نجاعة. كما أنّ النموذج الخاصّ بنا للشراكة، الدعم، والاهتمام بحاجات العمّال أثار حماسة لدى المشارِكين. هذا الحوار مُعزّز ويمنح الناس شعورًا بأنهم ليسوا وحدهم على متن هذه السفينة. كما نُسجت علاقات رائعة وجميلة خلال اللّقاء وبعدها، تعاونات، وبناء شبكات (networking). كلّ ذلك إلى جانب مُحاضِرين ضيوف منحونا أدوات ووجهات نظر جديدة حول التقنيات والبُنى التنظيمية في سياق العمل من المنزل".
ويوجز تلحمي: "في النهاية، نفهم ونشعر بأننا لا يجب أن نعود كما كُنّا قبل الكورونا، حتى إن زالت. فلن يكون ممكنًا أن نعود إلى العمل كاملًا من المكتب. ما كان يومًا مُستحيلًا أصبح اليوم معروفًا وشائعًا، الأمر الذي يفتح فرصًا لعدد كبير جدًّا من الناس. فيمكن أن يعمل الناس الذين يعيشون في الهوامش في شركات في تل أبيب وحتى خارج البلاد. يوسّع ذلك كلّ النظرة من ناحية جغرافية. إنّ العمل عن بُعد يتيح للناس الشعور بأنه لم تعد هناك هوامش، فكلنا دولة واحدة، دون التقسيم إلى قبائل أو إلى مناطق مختلفة".
[email protected]
أضف تعليق