الفنان بشارة عوّاد وهو جزءٌ مِن الفنِ والتاريخ والتراث في الناصرة، تميَّز بصوته واختياراته الفنيّة، وحمَل بين أضلعه فنًا مِن نوعٍ آخر، هو أحد أركان الزمن الجميل، الذي عاصر وواكب الفن منذ خمسينيات القرن الماضي، وأضاف بسخاء واهتمامٍ كبير للفن المحلي في الداخل الفلسطيني، سواء كان بحفظه وغنائه للفلكلور النصراوي الأصيل، أو برصيده الكبير من الأغاني المحلية الخاصة التي سجلها بصوته العذب، حيثُ اختار كلمات وألحان لخيرة الشعراء والملحنين المحليين، كما أحيا العديد من حفلات الأعراس في الناصرة والمنطقة لأكثر من ثلاثين عاماً.
من بيته القائم على قمّة أحد جبال الناصرة الشامخة والذي يطل على المدينة بتفاصيلها الدقيقة، خصّنا الفنان والمطرب النصراوي الأصيل بشارة عواد هذا اللقاء الذي أبحرنا به مع ذكرياته وتفاصيل مسيرته الفنيّة على مدار العقود الماضية.
- على غير العادة، أود أن ابدأ الحوار مع آخر أعمالك وأبارك لك صدور أغنية "يا زيتون بلادي الأخضر"، والتي تتزامن مع هذه الأيام حيُث يُكل علينا موسم الزيتون حاملاً البركة والخير والحُب، والسؤال: ما قصة هذه الأغنية؟
في الحقيقة أنّ هذه الأغنية كُتب كلماتها أخي وصديقي العزيز طوني كرّام – أطال الله عمره – وهي تعود إلى أوائل السبعينيات، وكنت قد توجهت الى الموسيقار الراحل الأستاذ مارون أشقر الذي لحنها قبل وفاته بفترة قصيرة، وهي من آخر أعماله، لكن على مدار السنوات السابقة لم تُسجل الأغنية. ومؤخراً، وبعد إلحاح من أبنائي لتسجيل الأغنية، عملتُ على تسجيلها بالتعاون مع المايسترو حسام حايك الذي أبدع بالتوزيع الموسيقي للأغنية، والمنتج نزار يونس الذي وافق مشكوراً تسجيلها بطريقة الفيديو.
- نرى حالة فريدة في هذه الأغنية، التي تأتينا كنسمة من زمن الفن الجميل والذي نفتقده اليوم وهي برأيي ليست كأي أغنية عادية، ونحنُ نتحدث عن ارتباط شعبنا العميق بأشجار الزيتون، حتى بات الزيتون يجذر وجودنا وانتمائنا الوثيق كشعبٍ، ويملأ وجداننا بالحنين الدائم إلى الماضي الجميل، وإلى الكلمة الأصيلة التي أبدع الفنانون في نشرها، أغنية، ولحنًا وأداءً بصوتِ فنانين كبير مِن أمثالك، وأنتَ من أوائل من غنوا أغاني الفلكلور النصراوي، ولك تاريخٌ فنيٌ عميقٌ ومميّز الذي يشهد له؟
- مع كل ما ذكرته، ألا ترى أن الدور الأساسي لنجاح الأغنية يتمحور في الأداء، وفي هوية الفنان الذي يقدّم العمل أمام الجمهور؟
- في رصيدك من الأغاني الخاصة أكثر من ثلاثين أغنية، هل أنت راضٍ عن جميع هذه الأغاني، التي قُمت بتسجيلها؟
أعتقد أنّ أغنياتي جميعها لاقت النجاح والانتشار الجماهيري المرجو، في تلك الفترة، ولا أستطيع إلا القول أنني راضٍ عن كل الأعمال التي قدمتها. وفي الحقيقة أنه وبمقاييس تلك السنين يعتبر رصيدي من الأغاني كبيرٌ، وهذا يدل على الهامات الكبيرة التي كانت في مجتمعنا من شعراء وملحنين، لكنه أيضاً قليل مقابل كثرة الأعمال التي كانت تُعرض عليّ لأدائها، حيث أنني لم أكن أوافق على كل ما يعرض علي وكنت أحرص على اختيار الكلمة المناسبة من ناحية المضمون واللحن المناسب بالمستوى المناسب، ليشكلوا مع الأداء الأساس لنجاح الأغنية.
- فهمت أنّ أغنية "عدروب الفل" من الأغاني العزيزة على قلبك؟!
- نعم هي كذلك، وقد شاركت بها في المهرجان الثاني للغناء العربي في القدس عام 1974، وكان انتشارها ونجاحها جماهيريًا مميزًا في تلك الفترة، حيث حفظها ورددها كل من سمعها وحتى يومنا هذا.
- هل كانت هذه آخر مشاركاتك في المهرجانات الغنائية؟
كانت مشاركتي في ثالث وآخر مهرجانات الغناء العربي في القدس عام 1980 كضيف شرف، حيث غنيت وصلة من الأغاني النصراوية.
- في عودة إلى البدايات، إضافة للغناء كانت لك مشاركة في حدث فني ضخم على مستوى الناصرة، متى كان هذا؟
نتحدث عن العام 1964، عندما أختارني الأستاذ مارون أشقر مع الراحلة أمال قزموز لأداء دور البطولة في الإسكتش الغنائي الأول الذي كتبه ولحنه وأنتجه الأستاذ مارون، "عرس الناصرة"، وذلك بمشاركة جوقة بنات راهبات المخلص والذي عُرض لأول مرة في قاعة جمعية الشبان المسيحية في الناصرة، وأقيمت له لاحقاً عروضاً أضافية، بعد أن لاقى نجاحاً كبيراً.
- ماذا كان دورك في الاسكتش الغنائي؟
أديتُ دور مختار الحي، الذي سافر أحد أبنائه الى الغربة، وكان رجوعه بعد غياب طويل، عند انشغال الأهالي بأحد أفراح الحي لتتحوّل الفرحة إلى فرحتين برجوعه، وقد غنيتُ في الأسكتش من الأغاني الفلكلورية النصراوية، وأيضا الأغاني التي كتبها ولحنها وخصني بها الأستاذ مارون، منها "هزي ع الغربال هزي"، "صارت فرحة بفرحتين" وأغنية "الهوى شد أحباله" التي تحولت أيضاً لجزء من أغاني التراث النصراوي التي ما زال يتذكرها ويرددها أهالي الناصرة الذين واكبوا وعايشوا اسكتش عرس الناصرة، واعمال الأستاذ مارون أشقر اللاحقة من "مغناة بنت الناصرة" واسكتش "عين العذراء".
- إضافة لأغنية الزيتون، هل كان لك تعاون سابق مع الشاعر طوني كرام؟
الأغنية الأولى التي غنيتها للشاعر طوني كرام، وهو رفيق العمر وجار الرضى، كانت عام 1969، وهي أغنية "عمّ الفرح"، التي كانت ايضاً أول أغنية أؤديها من ألحاني الخاصة، وقد لاقت نجاحًا كبيرًا بعد تسجيلها.
- غنيتَ النصراويات ولك تسجيلات لمجموعة مختارة من الأغاني النصراوية القديمة، حدثنا عن النصراويات في تلك الفترة من الخمسينيات والستينيات، وبالنظر الى كل ما سُجل وأنجز سابقاً وحتى اليوم. هل هذا يكفي لحفظ الفلكلور النصراوي الأصيل؟
الجميع غنى النصراويات، وأهل الناصرة حفظوا أغانيهم التراثية عن ظهر قلب وكانوا يطربون لها، حتى انّ سهرات كاملة، كانت تقام وتُغنى بها فقط الأغاني والمواويل النصراوية. وأنا حفظت وغنيت النصراويات، مثلي مثل غالبية الفنانين في ذلك الوقت، وكانت مساهمتي الإضافية بتسجيلي لمجموعة مختارة من الأغاني النصراوية، لكن يبقى الأساس في توثيق وحفظ ونشر الفلكلور النصراوي للفنان والمطرب الراحل خليل موراني، الذي عمل جاهداً لتوثيق كلام الأغاني وحفظ اللحن، واستطاع نشر الأغنية النصراوية عن طريق الإذاعة، كونه كان ربان "سفينة نوح"، وهو البرنامج الإذاعي المشهور، الذي كان يذاع اسبوعياً في سنوات الخمسينيات والستينيات، ويقدم من خلاله الفنان خليل موراني برفقة مجموعة فنانين من الناصرة، في كل حلقة موضوع اجتماعي معيّن بطريقة ناقدة تهكمية، ويغنون بعدها الأغاني الشعبية والتراثية النصراوية.
- نعم هو الفلكلور بالفعل هوية تجمعنا، وتجذِّر تراثنا في أعماق الأرض!
ليس فقط تجمعنا، بل وتجعلنا نشعر بالفخر والأصالة والارتباط بالماضي، والحنين اليه. وهي هوية تخصنا نحن، إذ تكونت في منطقتنا، ومع أنّ بلادنا تتبع منطقة بر الشام، إلا أنكِ تجدين الاختلاف في غناء "هلالالاليا" أو "اه يا حلو ويا مسليني" على سبيل المثال. والمقصود أنّ هناك اختلاف في الأداء بين فلسطين وأرض الشام. وما أجمل هذا التناغُم رغم الاختلاف، فلكلٍ هناك تاريخٌ وتراثٌ وحضارة، وإن اختلفت اللهجات إلا أنّ المضمون والمعنى متجذِّر فينا، وباقٍ أبدَ الدهر. وهناك أيضًا أغاني من النصراويات تُغنى في منطقتنا فقط دون غيرها، كأغنية "قطعنا النصراويات"، حتى قرية معلول المهجرة، لا يوجد من أبنائها المشتتين في شتى أنحاء العالم، من لا يحفظ الأغنية التراثية "مرشوشة بالعطر يا دار الأفراح"، والتي تُنسب ألى أهل معلول.
[email protected]
أضف تعليق