عرض في غاليري بيت الكرمة يوم الخميس الماضي العمل التعاوني المَشي على جليد رقيق بين فنانات مختلفات اللواتي يتعاملن مع تابوهات اجتماعية، التي لا تُناقَشُ عادةً في ساحات الجَدل الجماهيري، في المجتمعات المحافظة على الأخص. كل فنانةٍ من المشاركاتِ تحاول أن تحكي قصةً مختلفة مستقصاةً من سيرتها الذاتيّة الشخصيّة، من مشاهد اجتماعية مألوفة، من أساطير دينيّة، أو انعكاساً عن تاريخ الفن، إلا أنهنّ جميعًا تُحاوِلْنَ التَّوافُقَ مع بَعضِهِنَّ البعض على التوالي وَوِفْقَ إيقاعاتٍ متجانسة.
في مجتمع محافظٍ كالفلسطينيّ، لا يزال يُعتبَر التعامل مع الجنس، الجسد والخصوصيّة في سياقات نسويّة، اجتماعيّة ودينيّة، ضمن الخطوط الحمراء بالنسبة لشريحة واسعة من المجتمع. نتيجةً لذلك، وعلى الرغم من أن المشهد الفنيّ الفلسطينيّ يتميز بأنّه احتجاجيّ ويسعى لكسر حدوده المختلفة، لا تزال تلك المواضيع الاجتماعيّة غير شائعة النطاق محلياً، وإن وُجِدَ فنانون الذين يتعاملون مع موضوعات كهذه، فإنهم عادة ما يكونون فعالين جغرافياً في مناطق اخرى، تلك التي تسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم بيُسْرٍ وحريّةٍ أكبر. فنانات هذا المشروع هنّ بين القلائل الفعالات في الساحة المحلية واللواتي يأخذن على أنفسهن محمل المسؤوليّة الاجتماعية لكسر الحواجز، عبر استخدام الفن كآليّةٍ للتعبير والاحتجاج ضد الواقع الاجتماعي الأعوج الذي يواجهن يومياً. على غرار فنانات الحركات الطلائعيّة في اوروبا والولايات المتحدة في ستينات حتى ثمانينات القرن المُنصَرِم، حيث حاول مُبدعاتٍ عدّة تناول قضايا مماثلة، وإثارتها للنقاش الجماهيريّ من خلال الفن.
وُلِدَت فكرة هذا المشروع من الرغبة في تسميع أصوات هؤلاء الفنانات التي يُفْتَقَرُ إليها في العلن عادةً، ولجلب قِراءتهنّ إلى النقاش الجماهيريّ بشكل عام وفي حيفا على وجه الخصوص. مُجْمَلِ عروضٍ أدائيّة التي تضع الجسد في المركز وتقوم بانتقاده عبر طَرْحِ أسئلةٍ جدليّة حول موضوعاتِ الهويّة الجندرية، الانتماء الجنسيّ، والخصوصيّة بسياقات تعاريفها المتنافية اجتماعياً ودينياً، من خلالها تُسمِعُ هؤلاء الفنانّات صوتهنّ بصوتٍ عالٍ وواضح.
سحر داموني تنشط في مجال الرقص المعاصر، تَنسَجُ سرديتها عبر حركات الجسد وردود فعل المشاهد معها. في عروضها، تمزج الفنانة أغراضاً مختلفة بأصوات ميكانيّة مرّكبة، تستسقيها من تفاصيل طبيعة الحياة اليوميّة. ما يخلِق إطاراً غير مألوف أو منفصلٍ أحياناً، حيث تتفاعل بداخله. "لَولَب" تكوّن بإثر ايحائات من مشروع مُصَمِمَةِ الرقص البلجيكيّة تيريزا دي كيرزماكِر، والذي يرتكز على أساس سيمفونية ستيف رايخ "ستة بيانوهات" تُعْزَف في حلقات (1976)، وتَمْتَزِجُ مع المؤثرات الصوتية الأخرى التي أعدّتها الفنانّة بنفسها. "لَوْلَب"، بالمعنى الحرفيّ للكلمة، يَذكّرُ بالدائريّة الدارجةِ في طقوس التعبُّدِ الصوفيّة، وهو في الوقت ذاته يُعَبِّرُ عن قِيَّمِ الخلود واللانهائيّة، على نحو الواقع الاجتماعي الذي لا يقبل الجدل بشكل لا نهائي، وعلى الدوام يُسَّبِبُ تَوسيعَ الفَجَوات ودوائر التصنيف والخصخصة الجندريّة. داخل معقل الذكورية في ملعب كرة القدم، تقوم داموني بنشاطٍ هدفه جلب أبعادٍ اجتماعيّة سياسيّة اضافيّة، وتضع الضوء على الفجوات الجندريّة والتصنيف الجنسيّ، التي بداخلها هي "محبوسة".
ميّادة عبود تتناول قِصتها الشخصيّة كامرأة فلسطينية مطلقّة ومستقلّة تعيش في بلد غربيّ (لندن، إنجلترا)، وضعيّةٌ تُجبرها على مُواجهات اجتماعيّة - سياسيّة أمام عائلتها ومجتمعها. صُعود هو كولاج إلهاماتٍ من أساطيرَ دينية مختلفة من كتاب العهد الجديد بالذات. بداية العرضِ مستوحاةٌ من قصة "خلق حواء من ضلع آدم" (سفر التكوين 02:21)، وقصة "الطّرد من جنة عدن" (سفر التكوين 01:03), والتي تُغرى بها حواء بأكل الفاكهة المحرمّة بعد حوارٍ دار بينها وبين الثعبان (والذي يُجسَّدِ أحيانا على هيئةٍ أُنثويّة كذلك). ينتهي العمل بايحاء "طقس المعموديّة بالدم"، وهو من المراسم الكاثولكيّة الرومانيٌّة التي أُقيمت للشهداء كسبيلٍ للخلاص والصعود المباشر إلى الجنّة. كل هذه السرديّات الدينيّة التي تتناولها الفنانة في عملها بمُجمَلِها تضع الذكور كمركز القوّة، الذكاء، العلم، والسيطرة، وبالمقابل تتوجه إلى المرأة كأنّها الحلقة الأضعف، مشاهدٌ تَعْكِسُ مكانة النساء في المجتمعات البَطْرِيَرْكِيَّة حتى اليوم. معتقداتُ تسعى عَبّود إلى دحضها ومناقضتها، عبر هوماجٍ لكلٍ من تلك القصص التي تأخذ مسرىً آخر عندما تكون المرأة في المركز حيث تُعطى كامل القوة، المعرفة والسيطرة.
رُجوعاً إلى فناني الفلوكسوس ، وعلى نهج عمل الفنّان ديك هِغينز "موسيقى الخطر" (1962)، والتي سُمِيَت كذلك "بموسيقى الضجّة"، حيث أن هذه "الموسيقى" تُناقِضُ المعنى الحرفيّ للكلمة، وبذلك تسعى لفحص العلاقة بين الفنان والمشاهد المُتضرر أحياناً بفعلها. هكذا أيضا سيرورة عمل الفنانّة شهد زعبي في خصوصيّة خَطِرّة، حيث تتحدى الخطر وبذلك تبحث حواجز استيعاب المُشاهِد البدنيّة والعقليّة عن طريق تحفيز حواسّه، في ذات الوقت الذي تقوم به بفحص حدود جسدها بنفسها. خلال العرض، يَخْلِقُ الظلام الحالك في الحيّز شعورَ خطر، حيث يَحُدُّ من قدرة حواس النظر واللمس، وحتى أن حاسة السمع تنحصر بفعل "موسيقى الخطر" تلك التي تعزفها الفنانّة في الحيز.
عَقيدة (عَقيدة = إيمان / شمع السكر)، كلمة عربيّة ثنائيّة المعاني، الأول يشير إلى عملية نسائيّة، وهي إزالة شعر الجسد بعقيدة السكر، والثاني هو المعنى الحرفيّ للكلمة ألا وهو العقيدة (والمُعتقَد) أو الإيمان. مدام طيّوش (سيدة عائمة أو بالعاميّة طايشة)، عادة ما تَستخدم الأسماء المستعارة عند عرضِ فَنِّها، من خلال شخصياتها الأنا الأخرى تحاول أن تغوص التفاصيل الكامنة في أعماق شخصيتها، وأن تفحص تفاعل الجمهور مع تلك الأغطيّة والمواد الفنيّة في الآن ذاته، خاصةً أنها عادة ما تتعامل مع تابوهات ومواضيع غير مقبولة النقاش علناً، كالهوية الجندريّة ومشتقاتها. في حين أن العنوان عقيدة يشير إلى المعتقدات والأفكار التي لا يمكن التأثير عليها، تغييرها أو انتقادها، تستخدم الفنانة عقيدة السكر كرمز مناقضٍ ومجازيٍّ لعملية "التقشير". علاوة على ذلك، يظهر التناقض والتباين أيضا في التوتر ما بين عمليّة "التقشير"، عملية واضحة وبسيطةٌ، وبين الطبقات الإضافيّة المرئيّة والظاهرة، عندما يتضح أن مدام طيّوش هي بالأحرى احدى الشخصيّات الأنثوية (الأنا الخرى) التي يجسّدها فنان شاب. مدام طيّوش تنتقد، وحتى أنها تُحرج المشاهد عندما تُحَوِّلُه إلى جزءٍ حاضر في عمليّة أنثويّة خاصّة، هي تضع المشاهد في وضعيةِ تعاملٍ مع موضوعات الفئات الجنسيّة والهوية المركبّة.
[email protected]
أضف تعليق