لقد قيل الكثير عن الفنون الفلسطينية بالرغم من قلة الإنتاجات والأعمال, فلا ينكر أي منا أن الفن الفلسطيني له خصوصية وميزات لا تشبه فنون الثقافات الأخرى في دول العالم, قليلة هي الدول التي يتداخل فيها الفن والسياسة حتى النخاع, وبإيقاع سريع كما يحدث في فلسطين وكثيرة هي الدول التي تصنع فناً تجارياً أو ترفيهياً, لكن فلسطين هي ليست دولة حقيقية أو أنها بمثابة مشروع دولة وإذا تم فلن يشمل الفلسطيني الذي يعيش داخل دولة إسرائيل الا بشكل معنوي, فالإنتماء الفلسطيني أصبح غالباً انتماءاً معنوياً, ليس محصوراً في مكان أو زمان.. وهذا باب جميل للدخول في موضوع فني ومحاولة التجرد من القضية السياسية الشعبية الشاملة أو إشكاليات الهوية السياسية للفنان رغم أنها ستبقى تتزاحم داخل الجمل الفنية هذه فوق إرادتي ككاتب وكفنان, وبالذات في مقال أتحدث فيه عن علي سليمان ممثل فلسطيني يسابق الوقت بكثرة أعماله الفنية العالمية وتطوره.
الهوية السياسية للممثل علي سليمان لا تشغلني كثيراً في هذا السياق إلا بالحجم القليل كونه ينتمي الى مدرسة الفن الفلسطيني الشاب أو الحديث, أعرف سليمان منذ سنوات طويلة وتابعت أعماله المسرحية والسينمائية منذ أكثر من 12 عاماً حين كان يدرس في معهد إسرائيلي مختص بالدراما وبالتمثيل, وكنت أنا أيضاً قد درست السينما والسيناريو في معهد إسرائيلي في تل أبيب, هذه التجربة فريدة من نوعها في الفن العربي قاطبةً ولا أبالغ إن قلت جازماً!! أنها جزء مهم في بلورة هوية الفنان الفلسطيني الذي يحاكي ثقافة الآخر بلغته العبرية ويصنع الفن بلغة الاَخر دون أن ينصهر داخلها.. قلة قليلة من الفنانين الفلسطينيين الذين يتداخل فنهم بهويتهم ويؤثر عليها سلباً من ناحية إنسانية, لكن سليمان ليس منهم بلا شك ويستحق المتابعة.
أول عمل شاهدته لسليمان كان على منصة مسرح صغير في وسط حي من الأحياء الجنوبية لمدينة تل أبيب, كان عملاً مسرحياً مميزاً لكاتب إسرائيلي فذ ولاذع يدعى حانوخ ليفين, وقد كان ليفين ونصوصه محل شك وإثارة في المشهد الثقافي الإسرائيلي, فبالطبع يعرف الكثير منكم أن الفنان الإسرائيلي غالباً يكون يسارياً ومهما اختلفت تحليلاتنا نحن كفلسطينيين يبقى الإسرائيلي اليساري يحاور نفسه ويحاكي الآخر العربي الغريب بأسلوبه هو ووجهة نظر خاص به, أحياناً تناسبنا وأحياناً لا تناسبنا. لكن الفن يرتقى الى ما فوق ذلك بكثير فنرى من نصوص ليفين الكثير من التماهي والتواصل مع الحالة الإنسانية أكثر من الحالة السياسية, لن أسهب عن ليفين لأعود الى النص المسرحي الذي قدمه سليمان حينها "ملكة الحمام", فقد كان نصاً كوميدياً ساخراً او ما يسمى كوميديا سوداء لاذعة وتهكمية.. ضحكت كثيراً من أداء سليمان المميز فقد كان فيه من الرونق الفني ما لم أجده عند الكثير من الممثلين, الشكل الخارجي الحركات المسرحية الكبيرة المبالغ بها وملامح وجهه الخاصة التي تعطي للمشهد بعداً إنسانياً أصيلاً أو أصلياً يتميز به ممثل عن ممثل غيره.
تابعت أعمال سليمان حتى دخل الى مجال السينما والأفلام وكان أول دور خاص ومعروف قدمه فيلم للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد, لن أحلل الشخصية كلها في الفيلم أو الفيلم نفسه لكن سأقف عند المشهد الذي فيه كان يستعد بما يسمى "عملية انتحارية", خلال هذا المشهد هناك خطاب وهنا يظهر سليمان بأسلوبه الخاص في التمثيل والحوار مع الكاميرا والمخرج, لن أتحدث عن دور المخرج والعمل الإخراجي, بل أكرس الحديث عن التمثيل وما قدم سليمان, فقد كان لديه في هذا "المونولوج" وقت قصير من الصمت قبل بدء الخطاب ونظرات جميله تظهر داخل الشخصية القليل من الخوف وعدم الثقة بالنفس ثم يبدأ بالخاطاب ويستمر حتى يستقيم صوته وقامته ويظهر كبطلاً حقيقياً حتى يصل الى نهاية الخطاب فيصمت ويسأل أفراد الجماعة الذين جندوه "كيف؟".. وهنا يظهر عليه التردد وعدم الثقة بالنفس مما يدخل المتفرج في حالة من كسر حدة المشهد وجديته رويداً رويداً حتى يكتشف أن الكاميرا لم تسجل خطابه فيغضب ويتمتم شاتماً المصور. هذا مثال عيني وملموس يدل على أن سليمان لديه قدرة خاصة بالتحكم في حركاته, نظراته, أحاسيسه وحواسه كلها أثناء التمثيل ومع السنين تطور هذا الأسلوب حتى أصبح بمستوى لائق عالمياً.
تحدثت في هذه المقالة عن سليمان كحالة نادرة في الساحة الفنية الفلسطينية ولم أتحدث عن أعماله كممثل, لكنني شاهدت تطوره خلال السنوات العشر الأخيرة من أفلام ومقتطفات وحوارات معه حول أسلوبه وعمله, وأستطيع القول أن الممثل علي سليمان يخترق تاريخ السينما الفلسطينية ويسابق الوقت!! من خلال نشاط سينمائي لم يلاحظ في تاريخ السينما الفلسطينية منذ بداياتها في عام 1969 في بيروت، حيث تقدم سليمان إلى بعض الأعمال العريقة، أثبت من خلالها أنه في حركة دائمة فكرياً وحسياً.. فهو يحتوي الدراما في داخله يذوتها أولاً.. ثم يصمت قليلاً.. ثم يفعل ما بفكره وإحساسه وبهذا يسترق بعض الأجزاء من الثانية قبل أن ينفذ تعليمات المخرج.. ذكاء في التمثيل السينمائي الفلسطيني.. شجاعة في إدراك الميزنسينا.. قوة في فهم عقل المخرج.. وحب شديد للكاميرا.. لا شك أنها البداية لمركبات سينمائية مغايرة, نمت من مكان "أصيل" خارج عن "قاعدة النسخ".. ترَفعَت عن السياسة والهوية المُقولبَة.. فإخترقت تاريخ السينما الفلسطينية.
[email protected]
أضف تعليق