ضمن عملية بحث وتطوير استمرت سنة ونصف، بدأ يتكوّن عمل مسرحي بعنوان "الحصار" تحاول أحداثه تجسيد الحصار عند اجتياح مدينة بيت لحم، قام بإخراج العمل كل من المخرج الفلسطيني نبيل الراعي ( مخيم العروب ) والمخرجة زوي لفارتيتي (لندن ) ويشارك فيه مجموعة من الممثلين المسرحيين الفلسطينيين ( حسن طه ، احمد رخ، فيصل ابو الهيجا ، احمد طوباسي ، ربيع حنيني ،ميلاد قنيبي).
خلال التحضير للعمل، قام المخرجان بإجراء مقابلات مع سبعة من المقاومين المبعدين بالإضافة إلى أشخاص تواجدوا داخل الكنيسة خلال وقوع الحدث.
تم افتتاح العمل المسرحي في الرابع من نيسان في مسرح الحرية بمخيم جنين، حيث تزامن مع تاريخ بدء حصار الكنيسة، ومن ثم بدأت جولة عروض في الضفة الغربية، انتقالا إلى بريطانيا وسكوتلاندا لتكملة جولة عروض ضخمة مكونة من 26 عرضًا في عشر مدن مختلفة - وهي أكبر جولة عروض يقوم بها مسرح فلسطيني حتى هذا اليوم.
في حديثٍ مع الممثل المسرحي حسن طه ابن قريه كابول عن دوره في مسرحية "حصار" والشخصية التي قام بتجسيدها قال: "في إبريل عام 2002 وتزامنًا مع عملية "السور الواقي" قامت قوات الاحتلال باجتياح مدينة بيت لحم ومحاصرة أهلها. مجموعة من المقاومين الفلسطينيين قاموا بالتصدي لقوات الاحتلال لكن سرعان ما تم دفع هؤلاء المقاومين إلى كنيسة المهد ليتخذوها ملجأ لهم".
تم حصار الكنيسة ومحافظة بيت لحم مدة 39 يومًا، حيث استخدمت قوات الاحتلال كافة الطرق والأساليب البشعة في محاولة لتركيع المقاومين – الذين ينتمون إلى كافة الفصائل الفلسطينية - وإرغامهم تسليم أنفسهم. حوصر مع المقاتلين داخل الكنيسة 300 شخص، بما فيهن المدنيين والعائلات والرهبان.
لم يعترض الرهبان على دخول المقاومين، بل استقبلوهم بحفاوة وزودوهم بالطعام والشراب، وكانت العلاقة بين الرهبان والمقاومين ودية وطيبة، حتى ان احدى الراهبات التي كانت مصابه بالسرطان رفضت الخروج لتلقي العلاج ، وقالت للمقاومين ان حياتها ليست أاهم من حياتهم؛ ولكن بعد مرور عدة أيام على الحصار انتهى الطعام داخل الكنيسة فاضطر المقاومون إلى أكل ورق الشجر، وذلك لم يكن يسيرًا ﻷن الكنيسة كانت محاصرة جوًا والتحرك حتى داخل أسوارها كان مشوبًا بالحذر. حيث نصب جيش الاحتلال رافعات وبنادق يتم التحكم فيها عن بعد، حتى أن أحد المقاومين استشهد أثناء ذهابه للحصول على ورق الشجر.
اشتد الحصار يومًا بعد يوم، قوات الاحتلال راهنت أن المقاومين سيقومون بتسليم أنفسهم فورًا بعد نفاذ سجائرهم، لكن المقاومين تحدّوا وواجهوا وصمدوا أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
لم تسمح قوات الاحتلال بإدخال الطعام والشراب، تم فصل الكهرباء عن الكنيسة فاضطر المقاومون إلى مد الكهرباء من عامود كهرباء داخل الكنيسة. كما تم نصب مكبرات صوت ضخمة وتشغيل أصوات صاخبة ومزعجة نهارًا وليلاً كي ترهق المقاومين وتسرق منهم نومهم. عدا عن اعتقال وإحضار أهالي بعض المقاومين لساحة الكنيسة كي يدفعوهم للخروج والاستسلام.
أطلعنا على بعض قصص هؤلاء المقاومين
طه: هنالك الكثير من القصص التي تعكس الصمود البطولي والأسطوري لهؤلاء المقاومين. أحدهم أصيب برصاصة في بطنة ما أدى إلى خروج أحشائه والتسبب برائحة كريهة جدًا انتشرت وفاحت داخل الكنيسة الامر الذي سبب المعاناة له ولغيره لكنه رغم ذلك لم يخرج.
قبل دخوله الكنيسة أصيب أحد المقاومين في رجله إصابة بالغة، فقد تسببت الرصاصة بتفتت عظم الرجل لكنه صمد مدة 39 يومًا رغم الألم والمعاناة.
في اليوم الرابع من الحصار حاولت كتيبة اسرائيلية خاصة اقتحام الكنيسة، مما تسبب بحصول انفجار والتهام النيران ﻷحد أقسام الكنيسة، لكن المقاومين تصدوا للكتيبة وأوقعوا خسائر بشرية في صفوفها.
هؤلاء المقاومين بقوة إرادتهم وصبرهم وإيمانهم تحدّوا الجيش الإسرائيلي المزوّد بأحدث الأسلحة، ولم يركعوا رغم كل المحاولات والظروف الصعبة التي فرضت عليهم.
الضغوط التي تعرض لها المقاومون لم تكن فقط من طرف الاحتلال الإسرائيلي وإنما من السلطة الفلسطينية أيضًا. فقد هاتف مسؤولون في السلطة المقاومين مطالبين إياهم بأن لا "يستفزوا الجيش" وأن "لا يطلقوا النار" لئلا ينعكس ذلك سلبًاعلى ردود الفعل الدولية.
منذ اليوم الأول للحصار تشكّل طاقم مفاوضات مكون من عضو المجلس التشريعي الفلسطيني صلاح التعمري وانطوان سلمان محامي كنيسة المهد، ووجهاء محليين.. هؤلاء شكلوا حلقة الوصل بين الاحتلال والمقاومين. استمر عمل هذا الطاقم مدة 32 يومًا، ولكن قبل أسبوع من زيارة أريئيل شارون للولايات المتحدة طلبت الأخيرة من اسرائيل والسلطة الفلسطينية إنهاء الأزمة لئلا يسبب ذلك إحراجًا إسرائيل والولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي خاصة أن كنيسة المهد تعتبر أقدس مكان على وجه الأرض بالنسبة للمسيحيين، عدا عن كونها إرث تاريخي وحضاري. لذلك تم إنهاء عمل لجنة المفاوضات المحلية بشكل مفاجئ وتم عقد صفقة بين اسرائيل والسلطة برعاية المخابرات الأمريكية سي.آي.إي. وكان من بين المفاوضين الفلسطينيين محمد دحلان ومحمد رشيد.
لاحقًا تم نفي هؤلاء المقاومين، بعد إضطرارهم لوقف القتال، ما هي تفاصيل هذا النفي؟
طه: تم نفي 13 مقاومًا إلى غزة و26 إلى أوروبا ضمن اتفاقية غير مكتوبة حيث لا تفاصيل ولا ضمانات. الرئيس ياسر عرفات هاتف المقاومين ومنحهم حرية الموافقة على الصفقة أو رفضها.
لم تكن فترة الإبعاد واضحة. من خلال شهادات المقاتلين في المنفى قال بعضهم أن فترة الإبعاد ستكون سنة وبعدها سيعودون إلى أرض الوطن، ولكن البعض الآخر صرّح بأن فترة الإبعاد كانت مجهولة منذ البداية.
رغم الضغوط المستمرة التي تعرض لها المقاومون لكنهم لم يرضخوا ولم يلقوا بأسلحتهم. لكن لم تكن الكنيسة وحدها محاصرة آنذاك وإنما كل محافظة بيت لحم التي يتجاوز تعدادها 75 ألف نسمة. لم يكن بمقدور أحدٍ الخروج من بيته لتلقي العلاج أو لشراء الحاجيات الأساسية. حينها تساءل المقاومون عن جدوى وجودهم وصمودهم داخل الكنيسة. فإذا كان صمودهم سيسبب معاناة ﻷهلهم فما جدوى هذا الصمود؟ وإذا كان الناس، الذين يدافع عنهم هؤلاء المقاومين، يطالبونهم بالخروج من الكنيسة وبالتالي إنهاء الحصار فعليهم التفكير مليًا فيما إذا كان صمودهم يجدي نفعا.. وإذا كان الناس سيحمّلونهم مسؤولية المعاناة فعليهم التوقف والتراجع وإيجاد الحلول. أحد المقاومين وصف ذلك بقوله: " أساسيات العمل الثوري بتقول إنه الثورة مثل السمك والناس هم المي، إذا طلعت من المي أنت ميت". لذلك يصعب على المقاوم الصمود من دون احتواء واحتضان الناس ودعمهم له.
تم قبول الصفقة من قبل المقاومين وبناءً عليه تم نفيهم، وما زال المقاومون في المنفى يعانون مرارة الغربة وينظرون بعين الحزن والشوق إلى أرض الوطن فالسلطات الإسرائيلية لم تسمح لهم حتى بإلقاء نظرة سلام ووداع على عائلاتهم قبل نفيهم.. غالبية المقاومين ممنوعين من التحرّك في الدول التي نفوا إليها، وإذا ما أرادوا ذلك فإنهم بحاجة إلى تصريح من السلطات،وهم ممنوعون من مغادرة دولة المنفى
خلال الحصار أستشهد 8 أشخاص داخل الكنيسة بين مدني ومقاتل.. وأول شهيد كان قارع أجراس كنيسة المهد.ما هي الشخصية التي تجسدها في المسرحية؟
طه: أجسّد شخصية إبراهيم عبيّات، وهو من قياديي كتائب شهداء الأقصى في بيت لحم. كان عمره آنذاك 28 سنة وكان أحد المطلوبين لكون إسرائيل تتهمه بالمسؤولية عن تنفيذ عمليات فدائية. اعتقل مدة 3 سنوات، وكان يقول بأنه تعرف على فلسطين من خلال التجوال بين المعتقلات. خلال الحصار، وفي محاولة لتحطيم معنوياته أحضروا أمه إلى ساحة الكنيسة لتطلب منه الخروج وتسليم نفسه. لكنها قالت له: "والله إذا سلمت حالك بقطع البز الي رضعك".
عبيات كان يقول أن الإتحاد الأوربي أكد لهم بأن فترة الإبعاد ستكون سنة وبعدها سيعودون إلى الوطن، وأنه كان يفضل الموت داخل الكنيسة على الإبعاد.
هل لك أن تسلط الضوء على زوايا خفية من شخصية إبراهيم؟
طه: إبراهيم يخاف الأماكن المرتفعة وعند نقلهم بالطائرة بدأ احد المقاومين بالغناء "لاطلع ع الطيارة فوق وأفكك براغيها" فعندها انتفض ابراهيم قائلاً: "دخلك خلينا نوصل سالمين".
تزوج إبراهيم من إحدى قريباته بعد مرور 3 سنوات على الإبعاد ولم يوقع شخصيًا على عقد الزواج بل وقع بالوكالة، له الآن 4 أولاد، وهو شديد الغضب على الصفقة والسلطة ويقول "نسيونا".
"حصار" نضال وصمود رغم كل محاولات التجويع
يتابع حسن طه قائلا: مسرحية "الحصار" هي لب قضية الشعب الفلسطيني، إنها تعكس كل مآسي شعبنا قبل عام 48 وحتى اللحظة، من مأساة الهجوم والاقتحام إلى الحصار ثم التهجير والنفي. لكنها في ذات الوقت قضية نضال وصمود رغم كل محاولات التجويع والتركيع.
عندما اطلعت على تفاصيل ما حدث أيقنت أن هؤلاء الشباب هم من حاصر وهزم الاحتلال الذي استخدم كافة الأساليب الحقيرة كي يركعهم ويعتقلهم.
ولكن ما يؤلمني هو كيفية خروج هؤلاء الأبطال من الكنيسة ونفيهم خارج بلادهم. واسأل نفسي ما هي تفاصيل الصفقة التي تمت؟ لماذا لم يعودوا حتى الآن إلى فلسطين إذا كان هنالك وعد لعودتهم؟ ومن الذي تآمر ضدهم؟
هل للمسرح دور المسرح في تحطيم قولبات الصراع بين المقاومين والاحتلال؟
طه: بالنسبة لي "الحصار" هي من أهم الأعمال الفنية التي قمت بها حتى الآن، أنها تسلط الضوء على قصة إنسانية حيّة ما زال أبطالها يعانون، ونكشف من خلالها ما حدث بين أسوار الكنيسة من أحداث وصراع بين المقاومين والاحتلال وبين المقاومين أنفسهم. هذا حدث تاريخي يجب بحثه وكشفه وتعريفه للذين جهلوه أو نسوه. المسرح والفن بشكل عام وسيلة وأداة قوية جداًا وأحيانًا فتاكة في ترويج أحداث وأفكار وربما قلب مفاهيم معينة مغروسة في أذهان الناس. الأفلام الأمريكية الهوليوودية والإسرائيلية أيضا تعمل على الحط من قيمة الإنسان العربي وترسيخ دونيته ووضعه في قالب الهمجية والإرهاب، وبالمقابل تعمل على إعلاء إنسانية الأمريكي والإسرائيلي. علينا محاربة هذه القولبات وتحطيمها بالفن وبوسائل أخرى.
وماذا كان دور الاعلام الغربي والعربي في هذا الحدث العيني؟
طه: في فترة الحصار بثت القناة البريطانية بي.بي.سي فيلمًا عن حصار الكنيسة أظهرت من خلاله الجيش الإسرائيلي بأنه جيش إنساني أخلاقي يحاول السيطرة على مجموعة إرهابيين قاموا باقتحام الكنيسة واختطاف الرهائن. تبين لاحقًا أن الجيش اعتقل إحدى الصحافيات التي كانت داخل الكنيسة وسرق منها مواد التصوير واستخدمه؛ بالتعاون مع بي.بي.سي؛ في ترويج وتسويق إنسانيته وبالمقابل إظهار المقاومين على أنهم مجموعة إرهابيين. الجيش الإسرائيلي منع وسائل الإعلام من الاقتراب وتوثيق الحدث ما عدا القناة الأمريكية فوكس نيوز، فقد رافق مراسلوها الجيش أثناء الاقتحام.
وسائل الإعلام؛ ومنها العربية أحيانًا؛ تروّج بأن ما يحدث هو "صراع" وهذا ظلم ووصف كاذب للواقع ﻷن الحاصل هو "احتلال"، هنالك قوة تسرق وتسيطر وتقتل وتهدم وتغتصب شعب أعزل لا حول له ولا قوة. ترويج الأمر بأنه "صراع" يُفهم منه أن هنالك قوتين متساويتين ومتوازيتين تتخاصمان.
كيف كان تفاعل الجمهور الغربي مع "الحصار"؟
طه: أثناء جولة العروض في المملكة المتحدة لاحظ الناس أن هناك من تعمّد تغييب الحقيقة ونقل أكاذيب هدفها تشويه عدالة القضية الفلسطينية.
وهذا ما نرمي إليه من خلال العمل، كشف حقيقة ما حدث من وجهة نظرالمقاومين ومن كان معهم داخل الكنيسة، وكسر القولبات والأفكار المسبقة المهينة وغير العادلة حول إنسانيتنا وقضيتنا. ونحن ننجح بذلك فالجمهور البريطاني يتفاعل بقوة مع العرض وهنالك ردود فعل إيجابية من الجمهور والإعلام. ونلمس الكثير من التعاطف والتماثل وحتى المسؤولية أحيانًا.
المخرج نبيل الراعي كان له صوت في العمل المسرحي
طه: أهمية استخدام الفكرة وتطويرها إلى عمل مسرحي نبعت من المسؤولية الخالصة في إستعادة القصة ﻷن مسؤولية الفن تكمن في محاكاة الواقع السياسي والاجتماعي الذي عشناه وما زلنا نعيشه، أن نسأل السؤال، أن نستفز وأن نفتح أبوابًا لم تفتح من قبل.
لقد كانت القصة هناك، ولكنها نُسيت مثلما نسيت وضاعت آلاف القصص، ويحصل هذا دائمًا في واقعنا وذلك ﻷن الناس ينسون ويتجاهلون المشكلة والمُصاب من أجل المضي قدمًا في حياتهم ولا ضرر في ذلك، ولكن هذه القصة بالتحديد هي قصة بدأت ولم تنته بانتهاء الحدث، فكل من أبعدوا لا يزالون مبعدين وقد مضى على الحدث ثلاثة عشر عامًا ويبقى السؤال: هل سيعودون يومًا؟
[email protected]
أضف تعليق