تصوير: محمد بدارنة

شيءٌ ما جميلٌ يُطِلُ مِن خلفِ اللوحةِ، حاملاً مَعه قصة مِن بيته، ومِن وطنه الصغير، أو جزءًا من أحاسيسه، أو جانبًا من روايةٍ نعيشُها جميعًا، دون أن نبوحَ بِها للآخرين، ظلالٌ، وألوانٌ ومساحات تظهر وتختفي كما يشاءُ لَها مصورها، هو الفنان محمد بدارنة، وفي انعكاسِ الملامحِ تُطِلُ الحكاية التي يعيشها المصوّر تُعري تفاصيلنا التي نُحِبها أو تلك التي نهرُبُ مِنها إلى المجهول.

إنها لوحاتٌ، تعيشُ مَعه، على شكلٍ صورٍ فوتوغرافية، تُجسّد قصته الشخصية، وتمزجُ ما في روحه ومشاعره من مشاعر تجاه ما يحيطه، ويرسُم ملامحه في قلبِ الحكايات التي التقطتها، على شكلِ صورٍ من عالمنا.

ولعلّ تأثير عمله السابق في مجال حقوق الإنسان - في المؤسسة العربية لحقوق الإنسان، الذي تركها عام 2011، وتنازل عن مهنة التدريس، وهو الذي يحمل شهادة في الفلسفة والتاريخ في جامعة حيفا – ليحتضِن كاميرته، ويحمل معه مخزون معرفته وعلاقاته واهتمامه بحقوق الإنسان وبالقضايا الاجتماعية والتثقيفية والإنسانية، ليسكُن عميقًا في تفاصيل الأماكن.

الفنان محمد بدارنة (مواليد عرابة في الجليل) في الثلاثينات من عمره،قرّر تحويل حبه للتصوير، الذي بدأ من خلال لقائه بالكاميرا لأول مرّة على شكلِ هدية تلقاها، فصارَت حكاية غرامه، وعشقه ومصدر سعادته وأحيانًا، مصدرًا لحزنه الدفين، في حكايا الآخرين، التي يصُعب نسيان فصولها، عندما تُجرُك إلى الوجع أو الفراق يلتقط صورًا أحبها، فصارت عشقه ومهنته الأساسية، وبعدها درس التصوير الفوتوغرافي في كلية فيتسو في حيفا، لينطلق مع رؤيةٍ جديدة في التصوير.

وما بين التصوير الفوتوغرافي وهموم المجتمع وواقعه، ودون أن يعي تمامًا ما الذي يمكن أن تغيّره الصورة، انجذب إلى عالم الميديا والمواد البصرية، ثم غاص في عالمٍ كُلُ ما فيه يشكّل خارطة المجتمع وصورته بعيونِ مصوّرٍ يعشقُ كاميرته.

العلاقة الأبدية بالكاميرا

وحينَ يُترجِم المصوّر محمد بدارنة علاقته بالكاميرا، يأخذ منه الكثير مِن الوصفِ عن علاقته الأبدية بالكاميرا، فيقول:"كل ما يمرُ مِن حولي في الواقع الفلسطيني، يحكي الكثير مِن القصص والحكايا التي لا تُنسى، في بلادنا يُشكّل الواقع مادة خامًا، صالحة كموادٍ بصرية وأعمال فنية وأفلام، ومعارض صور ولوحات، وكتبٍ توثيقية، واكتشفتُ لاحقًا أنّ المواد البصرية، أقرب إلى كثيرين من المواد المقروءة أو التعليم المنهجي، فالبصيرة تدفعك إلى التقاط مواضيع جمّة صالحة للتصوير، في لحظةٍ، ولكلِ مصورٍ رؤيته وزاويته، ونظرته وفنه، ولدينا مصورون ممتازون، لكنّ الفرق بين المصوّر والآخر هو في بناء القصة الفوتوغرافية، كي تكون مؤثرة وعميقة، وأنا شخصيًا اخترتُ أن أحكي قصتي مِن خلال هموم مجتمعي، ومنذُ أن عرفتُ هويتي الفنية، قررتُ الانتماء إلى حاملي "كاميرا المهمشين"، وهي الكاميرا التي تقول مقولة معينة وتُبرق برسائل معينة، لا يلفتنا إليها الجمالية فقط، بل تنقل إليك ما خلف الصورة من همومٍ وقضايا، وحكايا، محلية وعالمية، وأحيانًا تقودك الكاميرا إلى عالمٍ بعيد، لكنه يُشبه عالمك تمامًا، فيختفي الفارق والمسافات عندما ترتبط الفوتوغرافيا في العالم كله".

ويرى بدارنة أنّ اللغة التصويرية ترتكز بالأساس على التفاصيل الشخصية للإنسان، مِن كافة جوانبه، ففيها الأملُ والألم، والحُب، والفرح، والمآسي والنكبات والأوجاع، لكنّ الفارق بين مصورٍ وآخر، أن تبحث عن الأشياء الصغيرة التي لا يراها غيرك مباشرةً، فهناك تفاصيل بسيطة لكنها تخفي وراءها حكاية مليئة بالتفاصيل الصغيرة، فعندما تتحدث عن الشهداء من خلال صورة ألتُقطَت، فإنك لا تتابع الأسماء فقط، بل إنّ تفاصيل حياة عاشها هؤلاء الشهداء، وكانت بالنسبةِ لهم كُل حياتِهم، وكذلك العمّال، الذين رحلوا عن الدنيا، لديهم قصص حياةٍ حلوة، كان لديهم ضحكات فرحٍ وأملٍ قبل أن يفارقونا، وهكذا تحدّثت أعمال الفنان محمد بدارنة عن الهّم الشخصي والجماعي، عن الباقين أو الراحلين.

وينشغل محمد بدارنة بالبحث عن الأعمق في الإنسان وفي الأشياء مِن حوله، وهذا الإنشغال ينعكس في خروجه من قالب الصُور النمطية والروتينية، خاصةً أنّ الصورة قادرة أن تحكي بما هو أجمل مما نراه. وتتجلّى عملية التجديد والبحث عن التفاصيل والهموم الإنسانية في أعماله الكثيرة التي قام بعرضها في أماكن كثيرة في البلاد وفي الخارج، ومِن بين أعماله "أثر" التي تناولت تجربة الموت المنتظر للأهل (مقهى إليكا، حيفا)، "تيه" عن رحلة الجسد بين العتمة والضوء (مقهى فتوش، حيفا)، حيفا الأمل: عن عمالة الأطفال (مدينة شيفشاون، المغرب)، ترجعوا بالسلامة (عُرض في حيفا،الناصرة، عمان)، أعمالٍ أخرى.

معرض تيه: عندما نبدأ باحترام اختلافنا مع الآخر

عن معرض تيه قالَ الفنان محمد بدارنة: "الفكرة الأساسية هي علاقة الإنسان بجسده وانعكاس هذه العلاقة بالآخر وعلى المجتمع ككل، وأيضًا حاول عرض الجسد بمنحى مختلف عن الجنسي المجرّد، ففي اللوحات لن ترى الجسد، بل كانَ هناك انعكاس الضوء أو اللاضوء على اللوحات التصويرية، وكان لا بُدّ لي مِن كسر التابوه، ومِن خلال هذا العمل يمكننا أيضًا مواجهة أنفسنا، بالتناقضات في داخلنا، وهكذا تنعكس التقلبات وهي جزء من الهوية الشخصية الخاصة بي أنا، بما يتعلق بالسياسة والمجتمع والدين والفكر والخ..، وتيه جاء ليتحدى قدرتي على كسر التابوه الذي يخصني أنا، وهكذا صارت أعماله تأتي مِن مكانٍ نهربُ في العادة من الحديث عنه، أو تصويره، هكذا نبدأ باحترام اختلافنا عن الآخر، كي نصبح مجتمعًا يستوعِب الآخر".

ما يميّز الفنان محمد بدارنة أنّه ناشطٌ في الترحال الدائم نحو كُلِ جديد في العالم، وهُناك ينجح في بيع لوحاته بمبالغ تُساهِم في جعله يعيشُ مِن مهنته باكتفاءٍ ذاتي، كما أنه لا يتوقف عن إقامة المعارض، وإقامة الدورات في البلاد والعالم، فهو لا يتوقف في مكانٍ واحد، بل إنّه شديدُ الارتباط بالمحلي، رغم عشقه للأماكن والصور، إلا أنه يؤمن بالتبادل الثقافي، وبالتكامل الثقافي في الوطن، وهو مصدر إيحاءٍ للفنانين والمصورين، ويرى بدارنة أنّ أروع ما في الفوتوغرافيا أنّها اللغة التي لا تحتاج إلإ إلى نظرةٍ وإحساس كي تتحول إلى علاقة "تضامن بين جميع المهمشين في العالم قاطبةً".

"إذا عرفنا قيمة الصورة، سنطوّر العمل الفوتوغرافي"

يؤكِد محمد بدارنة أنه لا يزال يتعلم، وقد يستقي الإلهام مِن مصوِّر مُبدع، حتى لو كانت الصورة الوحيدة التي التقطها، فإنّ المصوّر صاحب رؤية، وإذا نجح بالتأثير والتأثر مِن وعلى الآخرين، فإنّ القيمة الفوتوغرافية للصورة ترتفع، وعندما يعرف أبناء مجتمعنا أنّ الصورة قيمة فنيّة ويبدأون بالاستثمار فيها، فإنّ العمل الفوتوغرافي، سيأخُذ مكانه الطبيعي في عالم الفنِ والإبداع. ويثمّن بدارنة عمل مصورّي الأعراس و"أولئك الذين يوثقون تاريخنا وأعمالنا القيّمة من خلال أفراحنا وأعراسنا وأتراحنا، لكن يجب أن يخرج هؤلاء مِن محدودية الإنحصار في مجالٍ واحد إلى الأوسع بابًا، والأعظم شأنًا، حينَ تقف مِن خلف هذه المهنة رسالة إنسانية لكلِ العالم".

الصور تنطق:"ترجعوا بالسلامة"

عملٌ إنساني يستحقُ المُتابعة، حيثُ عُرض في جنيف، إذ تبنته منظمة العمل الدولية بالامم المتحدة، وعُرض أيضًا في تورينو الايطالية، وفي فلسطين وعمّان أيضًا، وهكذا يجوبُ المعرض العالم دون حواجز ولا حدود يضعها المحتل أمام العمّال والكادحين، ناقلاً قصة العمّال الكادحين الذين رحلوا في طريقهم إلى البحث عن لقمةِ عيشهم، فحالَ الموتُ بينهم وبينَ أحبائهم. إنهم شهداء العمل الذين قضوا على يد طبقة محتكرة ومحتلة، يرحلون وتبقى أسماؤهم وتفاصيل مِن ملامحهم في صورٍ ويوقّع المصوّر أعمال الشهداء باللون الأحمر،عارضًا أعدادهم الحقيقية، والذي يتجاوز الـ 60 شخصًا سنويًا، بينهم عمال بناء من الضفة الغربية ، وعددهم وصل إلى 200 ألف، هؤلاء الذين يخرجون من بيوتهم في ساعات الفجر، دون عقود وتصاريح ولا يحصلون على تعويضات في حال إصابتهم أو وفاتهم في أماكن عملهم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]