عرفتُها في شُباط 2012، حينَ جمعنا لقاء صحافي، في مدينة حيفا، كانت برفقة طفليْها، انسجمتُ مع كلماتها وحضورها ونعومتها، ولم تَعُد مجرد مطربة فلسطينية، بل أصبحت من يومِها صديقة عزيزة، ثم شاءت الظروف أن أكون أنا وصديقي مصطفى قبلاوي من طاقمها الإعلامي، لكنّ اللقاءات التي جمعتنا كانت لقاءات صداقة واستشارة، وهي أصلاً مُقلة في الحفلاتِ والنشاطات الفنية، بحكمِ متابعتها لدراستها فهي في المراحل المتقدمة من الدكتوراة في "علم المخ"، ناهيك عن ارتباطاتها العائلية، وانشغالها وزوجها د. عنان عباسي في الكثير مِن الالتزامات المهنية والعائلية، لكن في ظِلِ هذه الأجواء هُناك أشياءُ جميلة أخرى في حياتها، هو صوتُها والتزامها بهمِ شعبها، وبمشاركتها في النشاطات والالتزامات الوطنية والاجتماعية لصالحِ مجتمعنا.
أما أنا، حينَ قررتُ أن أكتب عنها، ليسَ لأنني مِن ضمن طاقمها الإعلامي، وإنما لأنني كنتُ قريبة مِنها خلال السنتين الماضيتين، وشعرتُ بدفء مشاعرِها، وبصدق عواطفها وبانفعالها مما يجري في وطننا الفلسطيني الصغير، وفي الفرحِ تكون سعيدة، فتُغرد بأجمل الألحان، وفي الأوجاع تصرُخ بحرقة الفلسطيني الذي يعيشُ همّ الوطن وآلامه.
وخلال الحفلات الفنية التي شاركت فيها دلال أبو آمنة، كنت اهتم بسماع وشوشات الحضور، وكنتُ سعيدة لسعادة مَن حولي، وتشجيعهم لها، وما أن تنتهي الحفلة حتى ينضم الصغار والكبار مِن حول المغنية لالتقاط صورٍ تذكارية.
كنتُ أشعرُ بانبهارِ الجمهورِ مِن حولها، من رقتها وموهبتها وقدرتها على تطويع إمكانيات صوتها بصورة رائعة - هكذا يرى كثيرون مِنّا دلال.
الإمكانيات في الداخل محدودة
لكنّني بعد عامين مِن المعرفة، كلّما تحدثتُ عنها مع آخرين، أسمعهم يقولون "لم تأخُذ فرصتها بعد"، لكنهم لا يعرفون أنّ دلال بدأت تغني منذ كانت في الرابعة عشرة من عمرها، واحترفت الغناء وهي في السادسة عشرة من العمر، وكوّنت لنفسها شخصية خاصة وحضورًا مميّزًا ومطلوبًا ليس في البلاد فحسب بل في الخارج، لكنّ الجميع لا يعرِف أنها وصلت إلى قلوبِ الناس، لكنّ الفن لم يعطِها حتى الآن المكان الذي تستحِق، ولم تستطع مثلاً أن تصدر ألبومها الخاص بسهولة، الأمرُ تطلّب الكثير مِن الالتزامات والجهود كي يَصدر بهذه الجمالية، لكنه لم يُسوّق للأسف لأسبابٍ عِدّة بينها ظروفنا الداخلية، وعدم الحصول على الدعم المطلوب لدلال وغيرها مِن الفنانين، لكنّ الأقسى والأصعب، أنّنا في الداخل مهما نجحنا ولاقينا القبول والتقدير، تظلُ الحدود مُغلقة والإمكانيات محدودة، وكُلنا يبحث عن فُرصة، لكنّ الفرصة أحيانًا تضيع بشكلٍ يُثيرُ الاشمئزاز، حين يتسلق قلّة من أصحاب الفن على الواقع، ويتجاوز أخلاقيات المُنافسة الشريفة، وتصبح الوطنية لديهم شعاراتٍ فضفاضة وضحلة لا واقع لها، ولا مصداقية عند التغني بِها.
دلال تلتقي عسّاف
في حياة دلال أبو آمنة الكثير مِن الحياة الجميلة، فيها فنها وصوتها وحضورها، قمّة في الروعة والرُقي، وكان المشهد الأخير حين قفز فنان آراب أيدول محمد عساف، مِن مكانه، تاركًا تمريناته تحضيرًا لاحتفالية انطلاق الثورة في رام الله، متجهًا نحو الفنانة دلال أبو آمنة يحيي، ويعبّر لها عن سعادته بلقائها، وهو المُتابِع لفنها، منذ غنّت وهي بعدُ صغيرة (19 عامًا)، "سلوا قلبي" لأم كلثوم، كما أنه متابِعٌ ناشط لصفحة الفيسبوك الخاصة بالفنانة دلال أبو آمنة، وأمام هذا التواضع والأخلاقيات التي يتمتع بِها الفنان محمد عساف، وبساطته حين تحدث عن تفاصيل خاصة بحياته، يستحق الحُب، والنجاح الذي حظي به.
دلال وعسّاف يجمعهما الفن وحُب الوطن ومآسي شعبنا الفلسطيني!
خلال سهرةٍ جمعت دلال أبو آمنة وزوجها د. عنان عباسي والفنان عساف والطاقم الإعلامي الخاص بدلال وبعسّاف، دار حديثٌ جَدّي ومهم، عن معاناة المُغني حينَ يُفرض عليه حصارٌ ليسَ بمقدوره تحطيمه والذهاب إلى بعيد، ودلال تعيشُ كسائر شعبها حصارًا اسمه "فلسطينيو الـ48"، بهويةٍ فُرضت عليه، تُجبره أن يظلّ العربي "الآخَر"، وليسَ "الفلسطينيي الأصيل المتجذر في عمقِ فلسطين، كلِ فلسطين"، أما محمد عسّاف، فهو مُحاصر بخيبةِ الفلسطينيين الذين لم يستطيعوا أن يصنعوا وِحدة الشعبِ الواحد، هو فلسطينيٌ في غزة، مُحاصرٌ هُناك، وفلسطينيٌ في الضفة، لا يستطيع الدخول إلى هُنا بسهولة، وفلسطينيٌ في العالم العربي، رغمَ نجاحه الباهر، يظلُ مُقيّدًا بمأساة الشعب العربي الذي يتعرّض للجوع والقتل والحصار والحروب فيُضيقُ الشرقُ الأوسط على الفنانين، فالأغنية لا تستطيع أن تكون أكثر مِن رسالة، وتعبير وتضامُن عن مأساةٍ شعبٍ، يعيشُ الهوان، والكبار يقفون ويتفرجون على معاناة ومأساةِ اللاجئين في "اليرموك" والضحايا في سوريا والعراق وفي سائرِ العالم العربي المذبوح وجعًا.
تستحق أكثر...
وفي الثامِن من كانون الثاني الماضي، أبهرت دلال أبو آمنة الجمهور الفلسطيني في رام الله، حين غنّت بصوتٍ قويٍ شجيٍ أغاني رائعة، ملتزمة غنّت للوطن الجريح، وغنّت للاجئين، وللقدس، ولبلادنا الفلسطينية بروعتها، وبمآسيها، فصفّق لها الجميع، وقال كثيرون على مسمعي "رائعة، جميلة، راقية، ملتزمة... إنها تستحقُ أكثر مِن هذا الحُب والإعجاب".
[email protected]
أضف تعليق