يبدو أنّ الفيلم الوثائقي "جنين.. جنين" - للمخرج الفلسطيني محمد بكري (مولود عام 1953)- لا يزال يُرعِب الإسرائيليين وخاصةً أفراد الجيش، بالرغم من مرور أكثر من 10 سنوات على إنتاج هذا الفيلم، فردات الفعل الإسرائيلية الصاخبة أفرزت بصورة واضحة الواقع العنصري والتحريضي الذي يسود المؤسسة والشارع الإسرائيلي ضد كل ما هو فلسطيني، حتى لو كان الفلسطيني صانِع فنٍ لا رجل سياسةٍ!
وفيلم "جنين... جنين"، الذي أثارَ ضجةً كبيرةً خاصةً في صفوف الجيش الإسرائيلي تحوّل مؤخرًا إلى موضوع الساعة في الكنيست، حيثُ تمّ إقرار قانون يحمل نفس الاسم "جنين... جنين"،وبالأغلبية خلال القراءة التمهيدية، ويأتي هذا القرار كجزء من السياسة الإسرائيلية المعنية بدعم الجنود الإسرائيليين ومنع أيِ شخصٍ أو مؤسسة من انتقاد تصرفات الجيش أو رفع دعاوى قضائية ضد أفراده.
وجاء إقرار مشروع القانون في الكنيست، بعد نحو عامٍ ونصف من رد الدعوة التي تقدّم بها خمسة من جنود الجيش الإسرائيلي، الذين اتهموا المخرج محمد بكري بالقذف والتشهير، من خلال فيلمه الوثائقي "جنين جنين"، وطالبوا بتغريمه بمبلغ يتجاوز المليوني ألف شيكل كتعويض بذريعة تلويث سمعة الجيش الإسرائيلي إلا أنّ المحكمة ردّت الدعوى في منتصف العام 2011، لعدم وجود قانون يُتيح مُحاكمة مَن ينتقد الجنود الإسرائيليين.
وقد نجح فيلم المخرج بكري بإحراج المؤسسة الإسرائيلية وفضحها خلال "جنين جنين"عندما وثّق إفادات وشهادات حيّة للمجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في مخيم جنين، واستشهد فيها أكثر من 70 فلسطينيًا، خلال عملية "الجدار الواقي" والاجتياح العسكري للضفة الغربية في نيسان 2002.
ولم يسلم الفنان محمد بكري من الملاحقة المستمرة والاستهداف الشخصي له والتضييق على عمله كفنان ومخرج منذ العام 2003 وحتى اليوم، ورغم حسم المعركة القضائية لصالحه لكنه ظلّ يؤمن أنّ "القضاء الإسرائيلي ومحاكمه ليست نزيهة ولا تحملُ شيئًا من العدل".
قانون "جنين.. جنين" مهزلة كبرى!
وردًا على قانون "جنين.. جنين" قال المخرج محمد بكري: "صراحةً لا تعليق لديّ أمام ما يجري من مهزلة، إنه أمرٌ يدعو إلى السخرية، في ظل دولةٍ تعيشُ على الكذبةِ وتصدقها، والأنكى من ذلك أنّها تكذب الآخرين، أفلا تُعتبر هذه القوانين ومَن يقف وراءها "وقاحة الكذابين؟!"، هؤلاء الذين اعتادوا على إطلاق الأكاذيب فيما يتعلق بغيرهم!! فمَن هُم إذن؟! أليسوا أصحاب الكذبةِ الكبرى التي بدأت منذ العام 1948، حين تحدثوا عن "بلاد بدون شعب" وهم الـ "شعب بدون بلاد"، وبناءًعليه قاموا بتهجير أكثر من 500 مدينة وقرية فلسطينية وعلى رأس البلاد: حيفا ويافا واللد وطبريا، وكذّبوا أيضًا عندما أنكروا وجود مجتمعٍ فلسطيني مدني وفلاحي. أما الكذبة الثانية التي لا تقل هولاً عن الأولى فهي بأنهم سرقوا البلاد وطردوا الفلسطينيين وشردوهم في سائر بقاع الأرض، وأنكروا ما فعلوه على مدار سنين طويلة، ولا زالوا يكذبون حين يقولون بأنّ الشعب الفلسطيني هو مَن خرج خائفًا هاربًا، غيرَ مطرودٍ على أيديهم! وبذلك صدقوا كذبتهم وأنكروا أنهم ملأوا الشاحنات بالفلسطينيين ورموا بهم خارج فلسطين التاريخية، ولم يبقوا منهم سوى 155 ألف فلسطيني لم ينجحوا في ترحيلهم من وطنهم".
وأضافَ بكري قائلاً: "أنا أرى أنّ قضية قانون جنين جنين، هي استمرارٌ ممنهج للكذب، ومواصلةً لسياسة العصابة المنظمة التي لا تتوقف عن التغلغل في جسمِ شعبنا. وما جاءَ بِه القانون ما هو إلا استمرار لسياسة "كم الأفواه"،التي تعني تخويف كل من تسوّل له نفسه أن يفعل شيئًا ضد "البقرة المقدسة" جيشهم الذي لا يُقهر، وهو البقرة المقدّسة الذي يُمنع محمد بكري وغيره من الاقتراب مِنها أو توجيه نقدٍ صريحٍ لها".
وقال أيضًا: "من خلال قانون "جنين.. جنين"، سيُمنع الفلسطيني في الداخل الفلسطيني وفي خارجه أن ينتقد سياسة حكومة إسرائيلي وممارسات جيش الاحتلال في الضفة والقطاع وفي الأرض المحتلة، وحتى في داخل حدود إسرائيل، أي في منطقة الـ48".
وحول دور الفن في تغيير الواقع الفلسطيني والتأثير على السياسات قال بكري: "للأسف لا يمكنني أن أغيّر من سياسة الحكومة الإسرائيلية، فالفنانون لا يستطيعون التأثير على السياسات، فأنا رجلٌ يحب المسرح والسينما، ولا أتعامل بالسياسة، كما أنني وحتى أيامنا هذه، رغم السنين الطويلة التي قضاها أدباؤنا وشعراؤنا في تناول القضية الفلسطينية، لكنّ أيةِ قصيدةٍ لشعرائنا الكبار ومنهم "محمود درويش"، لم تُساهم في تحرير شبرِ أرضٍ، وما استطاع "جنين.. جنين، وغيره" أن يُعيد رسم الخارطة السياسية، رغم أنني كنتُ آمُل بتغيير الواقع، لكن "رحم الله امرئ عرف قدر نفسه"، فالواقع الإسرائيلي المرسوم بأيدٍ صهيونية يمينية ويسارية، لا تستطيع أن تغيّر من سياساتها ومِن أهدافها المبيّتة التي تسعى إلى تعزيزها سياسيًا وحكوميًا، طوال الوقت".
وعاد الفنان بكري ليؤكد على سياسة التحريض التي انتهجتها المؤسسة الإسرائيلية ضده بشكلٍ شخصي لم تتوقف بعد، رغم مرور سنواتٍ على إخراج فيلم "جنين جنين"، وهي سياسة إرهاب وكمّ أفواه ومحاولة للانتقام لكسر شوكته، ثم عادَ المخرج محمد بكري ليؤِكد مرّة أخرى أنّ فيلمه المذكور لم يُظهر أي جندي إسرائيلي لا بالاسم ولا حتى بالصورة.
فرح، لإنجازات فيلم عمر ..
وعن النجاح الكبير الذي حققه الفيلم الفلسطيني "عمر" للمخرج هاني أبو أسعد، والذي قام نجل الفنان محمد بكري– آدم- بلعب دور البطولة فيه قال بكري إنه يشعرُ بسعادةٍ غامرة وزاد على ذلك بقوله: "إنّ الإنجاز الفلسطيني في مهرجان كان الدولي هو شيءٌ مشرّف، وقد شعرتُ بعد هذا النجاح، خاصةً المرتبط بنجليْ آدم وصالح، حيثُ شارك كلٌ منهما في فيلمين، آدم في فيلم "عمر"، الذي حصل على جائزة النقاد، وصالح الذي لعب الدور الرئيسي في فيلمه الإيطالي الجديد "سالبو" (المنقذ)، وحصل الفيلم على الجائزة الكبرى في فيلمه من فئة السعفة الذهبية.
وتأكيدًا على سعادته الكبيرة بالإنجاز الفلسطيني قال بكري: "إنّ المثل الذي قالَ "من خلف ما مات" لم يكذب، وأنا أشعُر بالراحة، لأنّ أبنائي يسيرون بخطى ثابتة وموفقة نحو النجاح، وكما آمنت ولا زلت بصدق وعدالة قضيتي، فإنني واثقٌ أنّ قضيتنا ستنتصر، "ولا يموت حقٌ وراءه مُطالِب"، وها هو جيلُ أبنائي يحملُ الشعلة ويكمل المسيرة، ومع ذلك لم تسلم الأفلام التي حققت نجاحًا على صعيد العالم الغربي أن يُشكك بنزاهتها من قِبل الاحتلال، رغم أن الفيلمين المكرمين تطرقا إلى الحب وجوانبه المختلفة، لكنّ إسرائيل تأبى أن تؤمِن بالحُب وبالحرية، ودائمًا تُكيل الاتهامات ضد الفلسطيني حتى لو كان فنًا آتيًا مِن وحي الواقع المُعاش، فكيف يُمكن لفيلمٍ يتحدث عن جندي اسرائيلي أن يُظهره بصورة إيجابية وكيف يُمكن شرعنة الاحتلال وإعطاء مصداقية لتصرفات الجيش الإسرائيلي، ولذلك تطرق الإسرائيليون بِمن فيهم الإعلاميون إلى الحديث عن أفلامٍ فلسطينية تسعى "لتشويه سمعة الجيش"، فأيُ مصداقيةٍ وأيُ فنٍ يدعونه وهم الذين يحاربون الفن الصادق والمهني بكافة وسائلهم المتاحة. لكنّني أؤمن أنّ الفن الصادق والمهني لن ينهار أمام محاولاتهم لطمس معالمه مهما فعلوه، وفي النهاية لا يمكن "تغطية الشمس بالغربال".
[email protected]
أضف تعليق