جلبت جمعيّة "المشغل" الحيفاويّة - البيت الدافئ والداعم للفنّ والفنّان الفِلَسطينيّ، محلّيًّا ودوليًّا، لمؤسّسها ومديرها حبيب شحادة – حنا، والّتي نجحت في تأسيس معهد موسيقيّ يعلّم التربية الموسيقيّة العربيّة؛ إيمانًا منها بأنّ التربية الموسيقيّة ما هي إلّا غذاء للروح والعقل، مساهِمةً في تطوير ونجاح المجتمع - إلى حيفا عرضًا موسيقيًّا ناجحًا ومميّزًا لجوقة "سراج"، حمل عُنوان "سيّد درويش".
"بلادي بلادي بلادي، لك حبّي وفؤادي".. بهذا النشيد الوطنيّ، وبحضور المئات، افتتحت، جوقة "سراج" الراماويّة عرضها الموسيقيّ الرّاقي، احتفاءً بمرور 120 عامًا على ولادة الملحّن المبدع سيّد درويش، بقيادة قائد الفرقة والجوقة الموسيقيّة، المايسترو والملحّن المتألّق سامر بشارة، وذلك في قاعة "كريچر" في الكرمل الفرنسيّ الحيفاويّ.
وقد تلت النشيد الوطنيّ المصريّ أجمل أغاني سيّد درويش، بأصوات مميّزة لأعضاء الجوقة الموسيقيّة، بمصاحبة عزف موسيقيّ عذب ومُتقَن.. أذكر منها "يا شادي الألحان"، "طلعت يا محلا نورها"، "أنا وحبيبي في الغرام"، "مَلكش حقّ تلوم عليّ"، "شدّ الحزام"، "خفيف الرّوح"، "سيبوني يا ناس"، و"الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية"، ليختم، أيضًا، النشيد الوطنيّ المصريّ "بلادي، بلادي، بلادي.." العرض الفنّيّ الرائع – كما بدأه – بمصاحبة الحضور، وعلى "أنغام" تصفيقه الّتي جلجلت في القاعة، تعبيرًا عن إعجابه وتعطّشه لعرض فنّيّ قلّما نشاهده على مسارحنا.
رقيّ موسيقيّ
أذكر أنّ جوقة "سراج" قدّمت لهذه المناسبة (120 عامًا على ولادة سيّد درويش)، أغنيّةً خاصّة تكريمًا لسيّد درويش حملت عُنوان "سيّد الدراويش"، من كلمات د. بطرس دلّة، وألحان وتوزيع المايسترو المتألّق سامر بشارة.
أثبت لي الفنّان المتميّز سامر بشارة، مجدّدًا، وبعد أن شاهدته في عروض سابقة، أنّه يُتقن ويتميّز بما يقوم به فعلًا.. حيث استطاع بكلّ حرْفيّة ومهْنيّة أن يُبهر الحضور ويشدّهم لسماع شدو الجوقة وعزف الفرقة الموسيقيّة، ويفعّلهم من خلال المشاركة في الغناء، بأسلوب خاصّ يبرز الرّقي الموسيقيّ، ويقرّبه من المتلقيّ، في آنٍ واحد.
تأسّست جوقة "سراج" عام 2005 في الرّامة، وهي تقوم بإحياء وإعادة توزيع أغانٍ ذات معنًى وطابع إنسانيّ واجتماعيّ وفكريّ، وتعمل على تجسيد فكرها الموسيقيّ، بدءًا من اختيار النصّ الكلاميّ، وانتهاءً بالتوزيع الموسيقيّ المميّز والجديد.
وفي حديث هاتفيّ مع قائد الفرقة والجوقة الموسيقيّة – "سراج"، الملحّن المتألق والمتجدّد، المايسترو سامر بشارة، قال: "لجوقة "سراج" طابع موسيقيّ ولون غنائيّ خاصّان. فهذه الجوقة الّتي تأسست عام 2005 لها أغانيها الخاصّة، ولكنّنا نعمل على إعادة إحياء الأغاني الاجتماعيّة الإنسانيّة عامّة، تلك الأغاني الّتي تُحاكي الشعب و"تحكي" باسمه، تلك الّتي تحكي عن الأرض، والبلد، والأمور المعيشيّة، والحبّ والمحبّة، وغيرها..، ولكنّ عرضنا لسيّد درويش كان مغايرًا".
"نزل" إلى الشعب..!
وما المغاير؟ – سألته، وأضفت: وكيف تمّ اختيار أغاني العرض؟
وبأسلوب حديث مميّز – كموسيقاه – أجابني: "يُعتبر سيّد درويش أبًا للموسيقى العربيّة، فقد استطاع خلال عمره الفنّيّ القصير (6 سنوات) – عاش 31 عامًا – أن يُحدِث نقلة نوعيّة في الموسيقى العربيّة، حيث أدخل تجديدات على الموسيقى، وغيّر في مفهومها.. لقد استطاع أن يغيّر في المضمون، ليحاكي المرأة لا ليحكي عنها فقط، "نزل" إلى الشعب، إلى العمّال، إلى عامّة الشعب. حاكى الشعب ومسّه عندما حوّل موسيقاه والمضمون إلى "لغة" أقرب إليهم، لغة يمكن فهمها".
وأضاف: "ونحن في تكريمنا لفنّان الشعب المُبدع والخالد، سيّد درويش، لمرور 120 على ولادته، ركّزنا على البُعد الاجتماعيّ لدى سيّد درويش، لذا جاءت أغاني العرض منوّعة، مثل: "شدّ الحزام"، "الحلوة دي"، "طلعت يا محلا نورها"، وغيرها.. لقد تطرّقنا إلى الموسيقى والأغاني "التقليديّة" لدرويش، تلك الأقرب إلى المستمع.. أبرزنا الطابع الاجتماعيّ و"التقليديّ" والطربيّ لسيّد درويش".
بشارة: "الجمهور الحيفاويّ متذوّق، ويملك أصالةً فنيّة"
وعن الجمهور الحيفاويّ، قال بشارة: "لا شكّ في أنّ الجمهور الحيفاويّ يملك أصالة فنّيّة، متذوّق للفنّ، ومتعطّش لكلّ ما هو أصيل، يعي ويدرك جيّدًا نوع الموسيقى الّتي يأتي لسماعها، ولكن في المقابل، أجده لا يعبّر، غالبًا، عن مشاعره، ولا يُطلِق العِنان لتفاعله خلال العروض، وكأنّه يخجل من المشاركة بالغناء أو بالتفاعل.. فأدعوه إلى أن يُطلِق العِنان أكثر لا أن يشدّه".
لماذا طلبت من الحضور الوقوف، نهاية العرض، ومشاركتكم غناء النشيد الوطنيّ المصريّ – "بلادي، بلادي"، فقد شعر البعض بالإحراج فوقف مُرغمًا، ولم يشارك العديد في الغناء؟!
"ملاحظتك مقبولة جدًّا" – أجاب بشارة. وأضاف: "أنا لم أقصد من وراء ذلك إجبار أحد على غناء النشيد الوطنيّ المصريّ.. فـ"بلادي بلادي بلادي.. لك حبّي وفؤادي" يمكنك أن تنشده لأيّ بلد تختاره – ليس بالضرورة مصر – لأيّ بلد تحبّه وتهديه إيّاه..! ولكنّى هدفت، أساسًا، من وراء ذلك إلى تفعيل الجمهور؛ ففي أحد العروض في الشِّمال وقف الجمهور بداية العرض على النشيد الوطنيّ وشارك، من دون أن يُطلب منه ذلك! وطلبي، هنا، لم يأتِ من باب الفرض".
"وعي، وصحوة نوعيّة"
وعن الفنّ المحلّيّ قال بشارة: "هناك وعي وصحوة نوعيّة؛ حيث تكثر النشاطات والأمسيّات الفنّيّة والثقافيّة والأدبيّة، وخصوصًا في مِنطقة حيفا والناصرة والجليل الأعلى، وهذه بشرى. ولكن في الوقت ذاته، وفيما يتعلّق بالموسيقى والغناء، مجتمعنا يتفاعل أكثر مع الأغاني الّتي نشأ عليها ويعرفها جيّدًا، فحتّى لو قدّمت له أغنية محلّيّة بمستوًى فنّيّ راقٍ، يصعب عليه تقبّلها.. فالتغيير يجب أن يأتيه تدريجيًّا، لا فُجائيًّا ومتطرفًا.. لدينا طاقات، ولكننا – باعتقادي – لا يمكننا خلط الأمور وفرض "ثقافة" فنّيّة "جديدة" بالقوّة على الساحة ومحو الثقافة الفنّيّة الأصيلة.. حتّى إنّ العبقريّ سيّد درويش عندما عمد إلى التحديث والتجديد حافظ – بأسلوبه – على النمط الموسيقيّ الغنائيّ القديم السائد، حينها".
قالب موسيقيّ وفنيّ واحد
العرض الموسيقيّ والغنائيّ لفرقة "سراج" كان مميّزًا وراقيًا، أصوات أعضاء الفرقة كانت جميلة، غير أنّ أصوات فتيات الجوقة لفتتني وشدّتني أكثر من أصوات الشباب، حيث بدت أصواتهنّ جبّارة، أنقى وأقوى.
وكما حاكى سيّد درويش الشعب بأعماله وموسيقاه المميّزة، حاكانا المايسترو سامر بشارة، بعرضه الموسيقيّ لسيّد درويش، بتوزيع جديد، وعرض شبابيّ "نزل" خلاله إلى الحضور، كما "نزل" درويش إلى الشعب، ليشعرنا بأنّنا والموسيقى والعازفين والجوقة والقائد في قالب موسيقيّ وفنّيّ واحد.
لقد كان اختيار "المشغل" موفّقًا باستضافة هذا العرض المميّز.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
شكر خاص للكاتب والصحفي المبدع مطانس فرح ، الله يخليلنا ويكثر من امثالك مع انه صعب ....